مرّ المجتمع العربي ومنه المجتمع السعودي خلال الخمسين سنة الماضية بتغييرات كبيرة ومتسارعة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية بشكل خاص، ومن هذه التغييرات ابتعاده أكثر عن الأنسنة، ونعني بها العقلانية التي تحكم التصرفات بعيداً عن السلوك الذي تقوده الغرائز أو الأوهام والأساطير، فالعقل وحده هو القادر على ضبط التصرفات ونقد المسلّمات، والتصرف بأسلوب حضاري في علاقته مع أخيه الإنسان أو في تعامله مع البيئة المحيطة به، ومن مظاهر عدم أنسنة المجتمع ما كانت تتعرض له المرأة من تشكيك في قدراتها، ومحاولات التضييق عليها في مجالات العمل والتنقل والسفر، أو ما يواجهه ذوو الإعاقة وكبار السن من صعوبات التنقل والوصول الشامل بشكل عام، أو ما تتعرض له البيئة والحياة الفطرية من تدمير وإهمال ولا مبالاة، أو ما يواجهه أصحاب المذاهب المختلفة من نقد وهجوم ومحاولة إقصاء من قبل المذاهب الأخرى، وقد ازداد هذا الهجوم والتباعد بعد الثورة الإيرانية واعتمادها على المذهبية لمد نفوذها داخل العالم العربي، واستثمار ذلك من قبل قادة الجماعات الإسلامية ومؤدلجيها.
وفي كتاب "عودة الأنسنة في الفلسفة والفكر والسياسة" للدكتور جورج الفار، تحدث كثيراً عن أنسنة الإنسان والمدن، وأكد على قدرة الثقافة والأدب والتراث العربي على المساهمة في مشروع الأنسنة لما تحمله من اهتمام بالإنسان وقضاياه، ويخاطب الكاتب كل الموجودين على الساحة العربية من مفكرين ومثقفين وأدباء للمساهمة في نشر الأنسنة، لقدرتهم على الانخراط في موضوعاتها المختلفة، ومنها الاهتمام بالإنسان وقضاياه، والبيئة وما يهددها، فالأنسنة لم تعط ما تستحقه من اهتمام رغم الخطوات التجديدية التي قام بها الأدباء العرب من محاولات تمثلت في مؤلفات الأديب الدكتور طه حسين والشاعر والفنان جبران خليل جبران وغيرهما، أما في العصر الحديث فقد تزعم الدكتور محمد أركون موضوع الأنسنة، وكانت شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون عنها، كما تطرق في مؤلفاته التي كتبها باللغة الفرنسية ومنها كتابه "نزعة الأنسنة في الفكر العربي" ترجمة الأستاذ هاشم صالح إلى موضوع الأنسنة في التراث العربي وتأثره بالأديب والفيلسوف أبو حيان التوحيدي، ومستفيداً مما عايشه على الساحة الفرنسية في ستينات القرن الماضي وما بعدها.
ودعا المؤلف الدكتور جورج الفار إلى حراك فكري وفلسفي وأدبي منظم وموجه نحو الإنسان في كل تجلياته وظروفه، والمساهمة في الجهد الإنساني المبذول لإنقاذ الإنسان والأرض والبيئة مما أصابهم من أمراض وتشوهات، فقد اهتمت الحضارة الغربية بالتقنية واستنزاف الموارد وإشعال الحروب أكثر من أي وقت مضى، باستثناء دعوات صادقة من أدباء ومفكرين لنبذ الحروب والمطالبة بحقوق الإنسان، ومكافحة الفقر والأمية وإعطاء الأقليات حقوقهم التي كفلها لهم النظام والمعاهدات الدولية، ومن أفضل الدول التي تهتم بالأنسنة وتطبقها "نيوزيلندا"، حيث يتمتع سكانها بكامل حقوقهم المدنية والصحية وتشكل الطبقة المتوسطة فيها نحو 90 %.
وقد خطت المملكة العربية السعودية خطوات جريئة وسريعة في السنوات الخمس الماضية لتحقيق الأنسنة لكل فئات المجتمع، ومنها حقوق المرأة، ومكافحة التمييز ضد المختلف سواء على أسس مذهبية أو قبلية أو مناطقية، ومن أجل ذلك صدرت الأنظمة التي تكفل الحقوق وتردع المتطاولين على حريات الآخرين، ومن برامج الرؤية 2030 تم وضع برنامج جودة الحياة، والذي يركز على تحسين جودة الحياة في المدن وأنسنتها لتكون صديقة للبيئة، وتحقيق الوصول الشامل لذوي الإعاقة، والإكثار من الحدائق الكبيرة داخل المدن، وتحسين الطرق والأرصفة لتتماشى مع حق المشاة في التنقل الآمن.
المملكة تقود تغييراً ثقافياً كبيراً على المستويين المحلي والعالم العربي، خطوات مدروسة ومعززة بالأفعال، فلا شيء يؤثر في الآخرين كالعمل الذي يطبق على أرض الواقع ويصبح مثالاً يحتذى.
نقلا عن الرياض