رؤية السعودية 2030 هدفها الأول: الإنسان، وذلك حينما جعلت مكوناتها تؤدي إلى نتيجة واحدة هي إعلاء شأن المواطن السعودي، والرؤية حينما تجعل الإنسان مرتكزها، فإنها تواكب رسالة الإسلام الخالدة التي جعلت الإنسان محورًا للكون، كما قال تعالى: (ألم تروا أن اللَّه سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة).
وأكثر ما يناقض توجهات الرؤية نحو صناعة الإنسان السعودي الجديد، منظومة القيم التي أنتجتها الصحوة، وفرضتها على المجتمع السعودي، وهي قيم مختلفة اختلافًا جذريًا عن الإسلام الأصيل، المبني على اليسر والسهولة، وإحسان الظن بالجميع، ونشر قيم الرحمة والعطف والتسامح، وهذا عكس ما انزلق نحوه الخطاب الديني، الصحوي وغير الصحوي، من تبني الرأي القائل بوجود فئة معينة هي «الفرقة الناجية» و«الطائفة المنصورة» دون سواها، والحق والصواب معها أو مع من انحاز إليها، سواء قال هذا الخطاب بالتفريق، أو قال بالجمع والترادف بين المصطلحين، والله تعالى وضع لنا دينًا شاملًا ذا إطار متسع لا يضيق مهما بلغت حجم وتعقيدات المسائل والقضايا التي تكتنف شؤون الناس والحياة والكون، وما يعبر به الإسلامويون تحت شعار «العودة إلى الإسلام» ليس تعبيرًا صادقًا ولا بريئًا، فنحن لم نترك الإسلام خلفنا ونتقدم عليه حتى نعود إليه، بل تخلف المسلمون عنه حينما انحرف بهم الخطاب الديني السياسي، بسبب سهولة فقداننا للبوصلة الفكرية، وسهولة وقوعنا في فخ العبث الفكري، ففي بواكير التاريخ الإسلامي وقعنا في معمعة فكرية عويصة حينما تماست معنا ثقافات العالم الآخر، ونتج عن هذا التماس فتن فكرية تمثلت في معضلات الإمامة والجبر والاختيار والقدر وغيرها من المسائل التي شكلت العقل المسلم، وبات بعضه ينفي بعضًا بسببها حتى اليوم، على الرغم من وجود عاصم قرآني كريم من هذه الفتن وهذا العبث الفكري، والمتمثل في قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد)، وهذا منوط بكون المقايسة بين الديانات، فكيف إذا كانت داخل دين واحد، وبين أهل قبلة واحدة.
على كلٍ، القرار السياسي السعودي الشجاع، والجهود الأمنية الحازمة، فوتت على الفكر الصحوي وحركته التثويرية، مسألة إغراق الوطن بالثورات والانقلابات، ثم تطور العمل على الناحية الفكرية بشكل غير مسبوق حينما قضت الجهود السعودية الرسمية على مسألة تقسيم المجتمع إلى كانتونات دينية، وما زالت هذه الجهود في طور العمل.
والعالم اليوم إنسانيًا تجاوز منطقة الأديان، إلى التعامل بالمشترك الإنساني العام، والذي يكون فيه الدين شأنًا خاصًا لا شأن لأحد به، ويعتبر عالم اليوم «الإنساني» أي فكرة سياسية تتخذ بناء على بعد ديني (قد يخالف مبدأ، أو قيمة إنسانية) هي محسوبة في خانة التطرف بلا تردد، وقد تستبطن السياسةُ القذرة الدينَ لأغراض وأهداف تنتهي بانتهاء الغرض منه، غير أن الوعي الإنساني المتراكم والمتزايد، بدأ يتمرد على السياسات القذرة التي توظف الدين، وبات يلتفت للسياسية النظيفة التي تعلي قيمة الإنسان وتضعه أول الاهتمامات وأكبرها، فالقراءة الواعية والمستوعبة لحركة التاريخ، تشير إلى أنه متى ما تم فتح باب الشريعة لخدمة الإنسان، استطاع الإنسان أن يبني الحضارة وأن يتقدم في مجالات الأخلاق والقيم والمدنية والتحضر، ومتى ما جُعل الإنسان خادمًا للشريعة أيًا كان نوعها، جلب على نفسه وعلى عالمه، التخلف والتطرف والتلاشي في أتون صراع البقاء والذهاب، فالشريعة الخادمة للإنسان تضعه في صلة مباشرة مع ربه، ويحقق من خلالها الغاية من خلقه وإيجاده عبر عدد غير متناهٍ من الصور والطرق الذاتية والمتعدية، أما في حال وضع الإنسان نفسه خادمًا لشريعة ما فإنه يتحول إلى كائن طائفي قبيح لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا من خلال جماعاتٍ وهيئاتٍ يتخذهم أربابًا من دون الله، وهذا ما يجعل الإسلام الأصيل، إسلامًا يواصل التقدم ويعمر الحياة والدنيا بلا أي تخلف أو تأخر، ولهذا قلتُ آنفًا إنَّ الإسلام لم يتخلف يومًا عنا لنعود إليه، إنما تخلف بنا المتطرفون حينما أشغلونا وانشغلوا فيما ليس من شأنهم كانشغالهم بأحوال الناس في آخرتهم، وأحوالهم مع ربهم، ولهذا كان شعار «العودة إلى الإسلام»، شعارا موهما وملتبساً ومغرضاً في الوقت ذاته، تبنته جماعات الإسلام السياسي لدغدغة مشاعر الجماهير، وحققت منه مرادها بشكل لا تخطئه العين، ومتى ما ذكر هذا الشعار المضلل اليوم، انصرفت الأذهان إلى أنها مجرد عودة إلى التطرف، وذلك حينما حوَّل هؤلاء المتطرفون الإسلام إلى برنامج استقطاب وتحزب، وفرغوه من محتواه العظيم، حينما كرَّست فتاواهم وآراؤهم الجانب الكمي، والمادي بلا أي اعتبار للنوع أو للروح، وعندما أعلت شأن القواعد الفقهية التي حجرت الواسع، وضيقت الفسيح، الأمر الذي جعل قابلية السيطرة على العقل الجمعي لا تحتاج أكثر من «طقة أصبع»، وعلى الرغم من يقيني التام أن التطرف حالة عقلية، إلا أنه قد يتكلفه من ليس متطرفًا، لغرض المسايرة والموافقة والمهادنة، بعد التأجيج، والضرب على مكامن القلق والخوف، لدفعه إلى تلبس الأيديولوجيا وتشربها بكل قوة ممكنة.
ومن ناحية أخرى، وفي قراءة واعية لمعضلة التطرف، تقول الكاتبة السعودية الأستاذة هيلة المشوح: «إننا لم نكن نرى أي تمايز في التطرف وخطابه، ولم نكن نفرق بين الفتاوى المتشددة، وكانت كلها تصب في ذات السياق المتطرف الذي يحرم ويمنع المباح لأقل سبب»، وكلامها العميق أفهمه في سياق واحد هو: أن الصراع على المشهد السعودي اكتنفته عدة توجهات، تخلصنا من أشدها خطرًا وأثرًا، وهو التطرف الصحوي، ولكن هذا لا يعني القضاء على التطرف كاملًا، بل ما زال ثمة تطرف يجب القضاء عليه.
نقلا عن الوطن السعودية