سباق محموم يجري بين الجامعات نحو تحصيل تصنيف متقدم في مرتبته الدولية، مقارنة مع جامعات العالم، ويتكرر تقريباً ذلك التقدم لبعض الجامعات ما بين تصنيف وآخر، في حين تجد بعض الجامعات التي لم يتم اعتمادها برامجياً أو مؤسسياً بمستوى مرض، تنافس هي الأخرى في ذلك التصنيف الدولي ويظهر اسمها، لا بد وأن نعترف بأن هناك تنافسا في سباق لا نجني منه سوى شعارات إعلامية وشعور زائف بالتميز الأكاديمي الكامل، على الرغم من أن التصنيف قائم على قياس مستوى جودة الأبحاث ونشرها وعددها وفق معايير محددة ولفترات معينة.
التميز في مراتب متقدمة في التصنيف الدولي بالأبحاث المنشورة، لا يُعد حقيقة هو المؤشر الأوحد، أو الأداة الفريدة النزيهة أو الوسيلة المهنية والعلمية، التي تُقيم مستوى أداء الجامعات الفعلي، فالبحث العلمي هو جزء من مسؤوليات الجامعات الأكاديمية والمؤسسية، إلى جانب مسؤولياتها الأساسية الأخرى المرتبطة بالتعليم وبالمسؤولية الاجتماعية، وذلك جميعه يشكل الإطار المهني والعلمي الذي تستحق به الجامعات التميز والصدارة في الترتيب.
لا شك أن للبحث العلمي مكانة أكاديمية وعلمية مهمة في الترقيات العلمية وفي منح الدرجات العليا، ولا نقلل من أهميته في تلك التصنيفات الدولية طالما يحقق المعايير المطلوبة منه، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو؛ ما أهمية تلك التصنيفات وطنياً؟ بمعنى ما الفائدة الحقيقية التي أثمرت عنها تلك الأبحاث وطنياً غير تداول اسمها في تلك التصنيفات؟ ولماذا نتابعها بشغف واهتمام ما بين الآونة والأخرى، وكأنها الكلمة الفصل في تحديد مستوى الجامعة؟ وهل هناك فائدة وطنية نجنيها من تلك الأبحاث باستثناء ما تمت الإشارة إليه؟ وهل هناك مصداقية حقيقية في نزاهة تلك الأبحاث وفق المعايير الدولية؟ وهل يمكننا تقليص معايير تميز الجامعات ومؤشراتها، في تلك التصنيفات دون الأخذ في الاعتبارات الأخرى؟!
تتمحور أهمية الأبحاث العلمية على المستوى الوطني في عدد من المعايير التنموية المهمة وهي:
1 - ما مدى اهتمام تلك الأبحاث بمعالجة مشكلاتنا وتحدياتنا التنموية المختلفة، وذلك يشمل كافة المخرجات النظرية والتطبيقية، وما مدى توجهها نحو تحقيق أهدافنا التنموية ورؤيتنا الاستراتيجية سواء على الأمد القريب أم البعيد؟ وهل هناك استفادة لما انتهت إليه من نتائج وما تضمنته من توصيات؟!
2 - ما مستوى مساهمة تلك الأبحاث العلمية في صناعة المعرفة وتطوير الاقتصاد وترجمة محتوى تلك الأبحاث النظرية أو المخبرية والتطبيقية؛ إلى منتجات ملموسة حقيقية، تُسهم في معالجة مشكلاتنا وتسعى نحو الحد من وارداتنا الاقتصادية، وتعمل على زيادة صادراتنا المختلفة، وتعزز من قوة وتنوع قاعدتنا الاقتصادية؟
3 - ما حجم مشاركة المواطن الباحث في إعداد تلك الأبحاث ونشرها، وما مدى مصداقية مشاركته الفعلية فيها، والتي منها يتكون الباحث الوطني المتميز، وإليه يمكن إسناد إجراء الأبحاث الاستراتيجية الحساسة، وغيرها؟
4 - ما السياسات المتبعة لتلك الجامعات وغيرها، في توجيه موضوعات البحث العلمي نحو متطلباتنا التنموية، وما حجم الدعم المقدم للباحثين المواطنين، سواء كانوا فرادى أو مشاركين في أبحاث تخدم تطلعاتنا.
5 - ماذا نستفيد فعلياً من تفوق الجامعات البحثي في التصنيف الدولي، عندما يكون الباحث أو جميع فريق البحث العلمي من غير المواطنين، ومن الذين يجرون الأبحاث لخدمة أهداف أوطانهم خارج الحدود، أو لتطلعاتهم الذاتية وبدعم وطني سخي، يشمل كافة ممكنات البحث العلمي من نفقات وأجهزة ومختبرات ورحلات علمية وبيانات وغيره.
ندرك أن تميز الجامعات البحثي يُعد مؤشراً جيداً، على وجود أعضاء هيئة التدريس من الأكاديميين الباحثين المعنيين بالبحث العلمي ومخرجاته، ولكن ما دور هؤلاء الأكاديميين في تحسين جودة التدريس والاهتمام بتفعيل التدريب لكافة التخصصات بالتشارك مع الجهات المعنية في الجامعة وخارجها؟ وما دورهم في تطوير البرامج الأكاديمية والمقررات التي يدرسونها بما يواكب تطور العلوم المختلفة وبما يخدم تحقيق أهدافنا التنموية ومتطلبات سوق العمل؟ وما خططهم واستراتيجيتهم الأكاديمية نحو احتواء ما يواجه الخريجون من عقبات في التوظيف؟ وهل هناك استشعار لحجم التحديات التي تواجه مخرجاتنا الجامعية في سوق العمل؟ وماذا أسفرت نقاشاتهم واجتماعاتهم من حلول لمعالجة مستقبل طلابهم المهني؟ وما جهودهم ونشاطاتهم في خدمة المجتمع بما يحتاجه من توعية وتثقيف وتوجيه وتدريب في المجالات المختلفة؟
تتحمل الجامعات مسؤولية كبرى نحو ما نواجه من متطلبات تنموية، باعتبارها مظلة مؤسسية رئيسة لإجراء الأبحاث العلمية في مختلف مجالاتها، علاوة على مسؤوليتها الأكاديمية كمراكز تعليمية معنية ببناء المعرفة وصقل المهارات وتوجيه القدرات، بما يثمر عن جودة في المخرجات وبمؤهلات منافسة في سوق العمل، نأمل أن نلمس ونشاهد جامعاتنا تجسد تلك المسؤوليات في مشروعات تطويرية تعزز من دورها الوطني، وألا يشغلها ذلك التنافس المحموم في التصنيف الدولي عن مسؤولياتها الأهم.
نقلا عن الوطن السعودية