يناقش كتاب "جوانب من الدراسات الإسلامية الحديثة" التجربة التركية والإيرانية ونظريتي الأسلمة الفوقية الصارمة في التجربة الإيرانية والعلمنة الفوقية الصارمة في التجربة التركية، والتي تقدم صورة كاشفة عن ظاهرتي الأسلمة والعلمنة الصارمة في كلا البلدين.
ففي بلد مثل تركيا، حيث تنحو الدولة منحى علمانياً جذرياً، يبدو المجتمع شديد الميل إلى التوجهات الإسلامية، في حين أنه في بلد مثل إيران، حيث تقوم الدولة على أسس إسلامية شيعية صارمة، تنجذب قطاعات واسعة نحو التوجهات العلمانية كشكل من أشكال الاحتجاج الصامت على ما تعده استبداداً دينياً شيعياً. وهذا ما يجعل من التعسف قراءة المشهد الثقافي والديني من خلال توجهات الدول أو النخب الفكرية والسياسية الضيقة.
ولعله لهذا السبب يبدو من المبالغة الحديث عن حركة علمنة في الرقعة العربية الإسلامية. فإذا استثنينا تركيا التي تبنت علمانية صارمة على شاكلة الثورة الفرنسية، ونصت على ذلك رسمياً في دستورها، فإن حركة العلمنة في معظم البلاد العربية والإسلامية تبدو ضامرة الحضور بما في ذلك مصر، أهم المراكز السياسية العربية التي يمكن أن تقام على ضوئها حركة الأفكار واتجاهاتها المستقبلية في عموم المنطقة العربية.. بل إن بعض الأقطار الإسلامية التي تبنت خيارات علمانية راديكالية كما هو حال تركيا تواجهها اليوم صعوبات هائلة، وتقابل بحركة ممانعة ثقافية وسياسية منبعثة من البنى التحتية للمجتمع، مما يضطرها في كثير من الأحيان إلى اللجوء إلى المناورة الضبابية في التعبير عن توجهاتها العلمانية، وإلى الاستعمال الذرائعي الشرعي. فمنع المرأة المسلمة في بلد مثل تركيا مثلا من ارتداء الحجاب بنص القانون، سواء في مؤسسات التعليم أو المؤسسات الرسمية، لم يوقف إقدام عدد واسع من النساء التركيات على التحجب، بما عمّق التناقض بين تشريعات قانونية بالغة الصرامة في العلمانية وواقع اجتماعي يتجه نحو التدين يوماً بعد يوم.
فإذا ما نظرنا إلى التجربة الإيرانية والتركية من زاويتي الأسلمة والعلمنة الصارمتين فإننا نقف على ظاهرتين جديرتين بالرصد والمتابعة والتحليل من الباحثين الاجتماعيين: أولاً: الصعوبات الكبيرة التي تواجهها عملية الأسلمة الفوقية الصارمة عبر استخدام أدوات الدولة لفرض خيارات ثقافية وأنماط حياة وأذواق محددة، على نحو ما تبرزه التجربة الإسلامية في إيران. فقد قوبلت ومازالت تقابل عملية الأسلمة الصارمة التي تبنتها إيران منذ عام 1979م بنوع من التململ الخفي والمعلن بين قطاعات اجتماعية واسعة، وخصوصاً بين المثقفين وفئات الشباب والفتيات الأكثر انجذاباً لمظاهر الحياة الغربية، وهذه الحالة يتداخل فيها التمرد الثقافي بالمعارضة السياسية لنظام الحكم الإيراني. حيث غدا مألوفاً التعبير عن الغضب السياسي أو الضيق من سياسات الحكم باللجوء إلى أنماط من اللباس والفنون الغربية باعتبارها شكلاً من أشكال التمرد على إيديولوجيا الأسلمة الصارمة التي نهجتها الدولة الإيرانية. وعند التحقيق الدقيق في هذه الظاهرة، يتبين أنه من العسير على بلد مثل إيران التي شهدت تجربة تحديث واسعة النطاق قبل عام 1979 وعلى امتداد القرنين المنصرمين أضحت لها جاذبية معينة لدى فئات اجتماعية واسعة لا يمكن إنكارها أو تجاهلها وأن محاولة تكييف هذه المظاهر وإعادة استيعابها في وعاء حركة الأسلمة الصارمة، لن تصمد كثيراً.
ثانيا: على الجهة المقابلة، نشهد حركة تمرد صامت ومعلن ضد الأنموذج العلماني الجذري في تركيا، حيث تتجه قطاعات شعبية واسعة من الأتراك نحو مظاهر التعبير الإسلامي المصنفة في دائرة المحرم في الدستور التركي. ففي الوقت الذي تنهج الدولة التركية علمانية بالغة الصرامة يشهد المجتمع التركي حركة أسلمة تحتية واسعة النطاق، شملت فئات اجتماعية واسعة، وغطت مساحات عريضة من الحياة التركية. ولعل أهم الدروس المستخلصة من التجربة التركية هو استحالة التخلص من الميراث الإسلامي، على الرغم من الصدامات العنيفة التي انتهجتها النخبة السياسية العلمانية. فقد ظلت أسئلة الهوية والانتماء، تسكن الأتراك وتحرك نخبهم الفكرية والسياسية على امتداد الثمانية عقود من عمر الدولة التركية.
وهنا يمكن القول إن المعطى الإسلامي ربما من الممكن تهميشه أو تكييفه لبعض الوقت، ولكن عملية التخلص منه تكاد تبلغ درجة المستحيل
نقلا عن الرياض

