قدمت الشعوب العربية تضحيات كبرى على مذبح الديمقراطية، كان آخرها ما حدث فيما سمي «ثورات الربيع العربي»، ولست هنا بصدد الحديث عن هذه الثورات ومحركاتها، لكنني أحاول قراءة التجربة من خارجها، ومقاربة الحلم البسيط الجامع للشعوب، التي ظنت أنها سائرة نحو إقامة أنظمة حكم ديمقراطي، على نحو ما ترى أنه النموذج الأمثل في دول العالم الأول.

تساقطت أنظمة الشرق الأوسط، ثم جاءت أنظمة ديمقراطية من حيث «الشكل»، وليس «المضمون»، ثم تكررت خيبة الأمل لدى الشعوب، لتشكل قصة قصيرة حزينة لشعوب فقأت عينها، التي كانت ضعيفة جاحظة، واستبدلت - للأسف - عينا زجاجية بها.

تنوعت ردود الأفعال بين من يتحسر على الحاكم الذي رحل، وبين من يدعو إلى استمرار النزول للشارع، وبين آخر يتبنى طرحا مخيفا جدا، ألا وهو تقسيم الوطن، وكأنما الشعب الواحد لم يعد قادرا على التعايش مع نفسه.

من هنا كان لا بد من طرح السؤال الجوهري: لماذا فشلت الديمقراطيات العربية في تحقيق الأمن والرخاء والكرامة والسلم لشعوبها؟ بل فشلت حتى في تطبيق نموذج ديمقراطي متكامل وحقيقي.

وفي رأيي أنه لا خلاص لهذه الشعوب إلا بمعالجة هذا السؤال بموضوعية، والعمل بجهد على إحداث التغيير.

المشكلة تتلخص في أن الغالبية الشعبية تعتقد أن الصناديق هي التجسد الحقيقي لروح الديمقراطية، وأن طوابير الناخبين دليل على امتلاك الشعب قراره السياسي، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فالحقيقة أن الديمقراطية هي فكرة متكاملة حية، تخلقت في مجتمعات مختلفة، واستيرادها، في شكل قصاصات يتم تجميعها على الطريقة العربية، لم يكن ناجحا على الإطلاق.

ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين أهم ركائز الديمقراطية الحديثة في الغرب وبين النسخة المقلدة في العالم العربي، لوجدنا أن الديمقراطيات الغربية ذات بناء قانوني متماسك، يحمي الدستور والوطن. كما أنها قائمة على مبدأ الفردانية والمساواة الإنسانية بين الناس، وتقديم الكفاءات، والتركيز على المصالح العليا. ومن جهة أخرى، فالديمقراطية في الغرب نابعة من وعي الشعوب الأكثر تقبلا للتنوع والاختلاف، والتي تشكل منطقها السياسي عبر تجربة فلسفية ثقافية امتدت لقرون. أما في العالم العربي، فالذين امتهنوا التنظير للمسألة الديمقراطية هم إما أتباع اليسار القومي أو أتباع الإسلام السياسي، وكلاهما كانت بضاعته الشعارات فقط، مما جعل الناخب العربي يتجه للصندوق كما يتجه لمباراة كرة قدم، فهو في الحالتين يشجع فريقه أيا تكن طريقته في اللعب أو النتائج التي يحققها.

نحن أمام تفاصيل أساسية مفقودة في النظام الديمقراطي العربي، الذي يقوم غالبا على المحاصصة الطائفية أو التحالفات القبلية أو الأفضلية العرقية أو المشاريع الدينية، وهذه معايير لا تنتمي للمسار الديمقراطي أبدا.

إذًا لا طريق اليوم أمام شعوب المنطقة، إلا بتغيير موروثها الفكري، وممارساتها السياسية والثقافية، وبأن يكون الوطن الموحد خطا أحمر، وأن يعلو القانون ولا يُعلى عليه.