بقلم// جابر العلي الأسمري
لن أقول كما قال المتنبي" عيدٌ عدت بأي حال عدت ياعيد .. بما مضى أم بأمر فيك تجديد" فالعيد في نظري هو العيد والأزمنة هي الأزمنة ولكن النفوس ليست النفوس فقد ران عليها طِلاء الخصومة والهجر والقطيعة والكِبر والتباهي وأفتعال مسبباتها حتى تمكنت منا فصارت تسول لأنفسنا مبررات القطيعة باختلاق الأعذار الواهية وحب التعالي على الغير وتحميلها على محمل الأنا والنرجسية وحب الذات وعلى قيل وقال تسويفاً وليس يقيناً، في الماضي كانت الحياة بسيطة وكان الناس متساوون في مظاهر حياتهم ومعايشهم، حياة نقية يسودها الوئام والمحبة والألفة رغم ما قد يحدث من خصومات سرعان ما تذوب ضغينتها ويتلاشى غضبها بمجرد أن تجمعهم المناسبات وكان العيد ذلك الضيف المرحب به الذي يعانق فيهم الفرحة ويرسم على ملامحهم البهجة ويمنحهم لحظة توقف مع الذات وإطلالة على مكامن الذكريات ومحطات الأزمنة التي عبروها بفرحها وحزنها، يصافحونه بقلوبهم المتسامحة قبل أيديهم المتخاصمة فتتعانق أرواحهم قبل أن تتصافح أيديهم وتصفى نفوسهم من كدر الخصومات والقطيعة فيعيشون بهجة العيد بكل ما تختزله من معاني سامية!!
إن العيد ليس في لَبْس الجديد ولكنه ذلك الإحساس المفعم بالفرح والبهجة والسرور حين تسير خطواتنا إليه مسرعة لكي تقطف زهرة فرحه بلقاء الأهل وأجتماع الأحبة والأصدقاء يصبح للعيد معنى، العيد يا سادة ليس بهروبنا من محيطنا الأجتماعي الذي يعرفنا ويألفنا ويأنس بنا ونأنس نحن به، نعم ليس بالسفر إلى عوالم لا تعرفنا ولا تشعر بنا ولا تقاسمنا مشتركات فرحنا ولا تربت على مكامن حزننا وفقدنا في حينها بل تُشعرنا أننا غرباء نعيش في مساحة فراغية مداها سرمدي لا متناهي لا نرى من خلالها سوى أنفسنا وواقعنا الضيق ولا نسمع إلا صدى صوتنا ويالها من غربة نفسية وروحية موجعة رغم تظاهرنا بالفرح والتغيير ولا يعني هذا أني أدعو إلى الإنغلاق على الذات وعدم السفر فأنا من محبيه تمثلاً لقول الإمام الشافعي: "تغرب عن الأوطان في طلب العلا، وسافر ففي الأسفار خمس فوائد، تفرج هم واكتساب معيشة، وعلم وآداب وصحبة ماجد" لكنني ضده حين يصبح هروباً مستمراً عن أداء واجبات إجتماعية وأخلاقية تحتمها علينا روابطنا وعلاقاتنا الإجتماعية وخاصة في أعيادنا التي جعلناها بهروبنا منها موحشة وباردة وحزينة فكم من بيت تزين للعيد وأعد له عدته وكل مستلزمات ضيافتة وكرم أستقباله ثم خذله ضيوفه الهاربون من محطات فرحه والجاحدون لمعانيه وقيم تواصله، ولهذا خالفت المتنبي في وصفه للعيد الذي تساءل عن عودة العيد برتابة ولم يأتي بجديد وتساءلت عنا نحن هل عدنا للعيد وأستقبلناه كما كان يستقله الأباء والأجداد؟!
دعونا نتفق أن الأصل في العيد الفرح والاستبشار واشاعة روح المحبة والألفة، فالفرح مهارة تربوية يتلقاها الطفل من صغره فيعرف كيف يعبر عن مشاعره تجاه المناسبات الجميلة، يفرح وقت الفرح ويحزن وقت الحزن والمحروم هو ذلك الإنسان الذي لا يعرف كيف يفرح أو يبتسم، وبعض الناس يخلط بين الجدية وعدم الابتسامة والفرح، ويظن أنه من مستلزمات الجدية أن لا يبتسم أو يفرح، وهذا فهم خاطئ ومعوج، فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم كان يحمل هموم الأمة وكان جادا ومع ذلك كان أكثر الناس تبسما وسعادة وتفاؤلا.
إلا أن هناك بعض المنغصات التي تحول مظاهر العيد عند بعض الأسر من فرحة إلى حزن ومن سعادة إلى كآبة، مثل أن يستقبل رب الأسرة أبناءه بالصراخ والعصبية في صباح أول يوم للعيد فيوتر البيت ويؤزم العلاقة وينكد عليهم الحياة، أو أن يختلف الزوجان على برنامج الزيارة العائلية فيخرج كل واحد منهما بسيارة منفصلة أو يمكث أحدهما بالبيت رافضا المعايدة على الأهل، أو أن يسافر الأب مع أصحابه وأصدقائه ويترك عائلته وأبناءه وحدهم وكأنهم أيتاما من غير أب، فيكون العيد في هذه الحالة لا طعم له ولا لون، وهناك أناس آخرون يستثمرون هذا اليوم المبارك بإصلاح النفوس وتصفيتها من خلال العطايا والهدايا والزيارة، ومن العادات الجميلة عندنا ما يسمى (بوليمة العيد) فتجتمع العائلة كلها عليها فيكون اجتماعا سعيدا ومبهجا يعمق روابط المحبة والألفة والدفء العائلي، وإعطاء العيدية لمن يقومون بخدمتنا بنية الصدقة والإحسان لنيل الأجر والثواب.
فجمال العيد بالجمعة والألفة والتعارف، فالعيد مدرسة تربوية واجتماعية عظيمة، وقد وصف الرافعي العيد وصفا آخر جميلا عندما قال (وكأنما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الأمة)، ومثلما بدأنا مع وصف الرافعي للعيد فنختم المقال بكلمة جميلة منه فيقول (وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأسرة ولدار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي، وتظهر فضيلة الإخلاص والمودة معلنة للجميع اصداء الفرح والبهجة والسرور، ويُهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة؛ وهنا يكمن معنى وروح هذه المناسبة العظيمة وتجسد معنى قول الرافعي، وكأنما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها).. تقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وساير الطاعات والاعمال الصالحة وكل عام وانتم بخير وصحة وسعادة، حاضرون معنا بروحكم المبتهجة ومشاعركم المحبة أعواماً عديدة وازمنة مديدة، عيدكم سعيد 🌸