الشعوبية اتجاه تولد عند غلاة الموالي قديما، وتحديدا الفرس، نتيجة ظهور الإسلام الذي جردهم من الزعامة والإرث الوثني القديم، ورد فعل - متعصب- على بزوغ نجم العرب وأفول الأمة الفارسية. هذه الشعوبية واضحة الدوافع المنتجة لها، وهي مثبتة تاريخيا ونستطيع تمييزها ومعرفة رد الفعل العربي تجاهها، سواء على مستوى السياسيين كأبي جعفر المنصور وهارون الرشيد والمأمون، أو على مستوى المثقفين والأدباء.
وأخذ التصدي لها حيزا كبيرا من اهتمام العرب على المستويات كافة. تصديا هدفه الحفاظ على الذات العربية من التفكك والذوبان في خضم التحديات الثقافية الكبرى التي مرت بها. الشعوبية القديمة سعت بكل طاقاتها النقدية على مستوى الأدب والثقافة للحط من شأن وقيمة كل ما هو عربي، وتجريد العرب من جميع ما يتمتعون به من مزايا وخصال وفضائل ومكارم أو مواهب وكفاءات، وأحيانا باختلاق الأكاذيب والأوهام وتزوير الأحداث والحقائق. فالعرب عمليا كانوا يواجهون معركة سياسية ذات طابع ثقافي موجه ضد تراثهم، فقد شنت معركة تجاه الشعر العربي وآثار كل شاعر أو كاتب أو عالم، مستخدمة كل أدوات وأساليب القدح والذم والتحقير، كما استخدمت كل أدوات الكذب والتزوير والطمس والتشويه والتلفيق. وفي جانب آخر وجهت سهام النقد ضد واحدة من أهم القيم العربية وهي «الكرم» والتهجم عليها بضراوة للحط منها وإظهار بطلانها وعدم جدواها، وأن العربي يبالغ في إقراء ضيفه بحثا عن المديح أو اتقاء الهجاء.
ولكن تلك الشعوبية القديمة، هل ماتت واختفى دورها؟
الراصد للأوساط الأكاديمية والأدبية اليوم سيجد أن هناك جنسا جديدا من الشعوبية لا زال يمارس الأدوار نفسها، ويناقش القضايا نفسها.
في كتابه «كنت شيوعيا» يقول الشاعر العراقي بدر شاكر السياب عن هذه الشعوبية الجديدة بلسان الشيوعي التائب أو الشعوبي التائب: «ورحنا نضرب على كل وتر تخرج نغمته موافقة لما نريد، بثثنا بين الطلاب الأكراد أن القوميين يكرهون الأكراد وقوميتهم، بينما نعتبرهم نحن إخوانا لنا، بل إننا أخذنا نسب العرب والقومية العربية أمامهم، رحنا ننتقص من العرب، ونزعم أن التاريخ العربي ما هو إلا مجموعة من المذابح والمجازر، وأن الزعماء العرب وزعماؤهم ما هم إلا إقطاعيون حقراء، جلادون إلى غير ذلك».
في الأوساط الثقافية والنقدية والأكاديمية «أقسام اللغة العربية وآدابها»، غالبا ما تكشف هذه الشعوبية عن وجهها تحت غطاء النقد الذاتي أو القراءة الجديدة للتراث.
تضمر كثير من مقولات «النقد الثقافي» اليوم روحا عدائية للثقافة العربية، باعتبارها ثقافة شعوب متدنية أو حفاة عراة حديثي نعمة، يتصفون بالجلافة والنذالة، ويحملون قيما لا تحترم المرأة والفئات المضطهدة في المجتمع.
ولعلنا نشهد كثيرا من الأطروحات التي تحاول برهنة أن الثقافة العربية، ثقافة عنف كامن في أعماقها، متأصل في تراثها وآدابها وتاريخها، وحتى صار توظيف العرب لأدوات مثل (الرمح والقوس والسيف) في شعرهم وأمثالهم، دليل قاطع على ما تحمله ثقافتهم من عنف يسري في جيناتهم.
فالشعوبية شكل جديد عند نقاد الثقافة والأدب، وتستغل الساحات الفكرية والأدبية للتعبير عن نزعتها، وهي - بلا شك- ظاهرة ثقافية واجتماعية شائعة في أنحاء العالم العربي اليوم، وتحتاج من المثقف العربي المطلع كشفها، وتقديم العلاجات الثقافية لها.
نقلا عن الوطن السعودية