مفكرٌ ولغويٌّ ضليع
استقبلْنا في الدرس الثاني أستاذا جديدا، لم أكن أعرفه كثيرا، لكن عرفت بعد ذلك أن الأقدار قد ساقتني إلى كاتب من الدرجة الأولى، ومفكر له صولات وجولات، والغريب أن له جهودا واسعة في غير التخصص، وقد ملأ السمع والبصر بما يخطّه في صحيفة مكة، كما أنه حاضر في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وله ظهور متعدد في القنوات الفضائية.
وكان غيابي منذ فترة عن تلك القنوات سببا في عدم معرفتي به، ولكنه معروف في أوساط جامعة القصيم، وعند كثير من زملائي في الدفعة، وكانت مادته تقوم على الربط بين أصول النحو، وأصول الفقه، وجوانب التأصيل اللغويّ، وعندما دخل علينا لمست فيه سَمْتَ العلماء، ونُضج المربين، ونَهَمَ الباحثين، وسعة معرفة، مع تخطيط متقن للمادة، إنه الأستاذ الدكتور: سليمان بن علي الضحيان.
كنت أعرف كثيرا عن موضوعات المادة التي سندرسها عنده (قضايا دلاليّة في الدرس الأصوليّ والنحويّ) لذلك أظهرت له من أول محاضرة نقاشات وحوارات أسعدته، ولكني أحسنت الظن في نفسي، وفي المادة كثيرا، ولم أعرف أن وراء ذلك النحويّ البارع، والباحث الرصين سلسلةً من التكليفات والمهام التي ستُمحِّص المجموعة، وتُبيّن من الذي سيكسب الرهان، وأقول بكل صدق وأمانة: كانوا على قدر كبير من التحدي، وأبدوا شجاعة، وبسالة لا تُنسى.
لم يُكثر أستاذنا في مسألة عرض المادة، ولم يكن مستأثرا بتقديم المعلومات، واستعراض القدرات، فقد خطا بنا خطوات بسيطة مهّد بها للمقرر، ثم جاء الوقت الذي سيخوض كلُّ واحد منَّا التجربة، ويُنفِّذ المهمة الموكلة، ويصنع مادة ومقررا مناسبا، وكان ذلك في جملة من الخطوات المرتبة، والتكاليف المتناسقة.
قسَّمنا أستاذنا إلى مجموعتين، المجموعة الأولى تتولى تلخيص مجموعة من الكتب، حيث يتولى كلّ طالبين منا تلخيص كتاب قرّره الأستاذ، والمجموعة الثانية يبحث فيها كلّ طالبين في موضوع محدّد، ومن الاتقان، والعدل أن الأستاذ اختار الكتبَ التي تُلخِّص، والموضوعات التي يُكتب فيها.
كما أشرك معنا الأخوات الدارسات، فكنَّ قد أخذن نصيبهن من هذه التكليفات، ووضع لهن نفس الطريقة، على أن تكون الخطوة الثانية مشتركة بين الجميع.
وبعد أن يقوم كلٌّ بما أوكل له، قام الدكتور سليمان بوضع آلية لمناقشة الأعمال وتقييمها، وفي طريقة المناقشة يتولى الطلاب والطالبات الذين يُلخِّصون الكتبَ مناقشة الطلاب والطالبات الذين كتبوا البحوث، والعكس، بحيث يضع كلّ طالب في الدفعة، وكلّ طالبة درجة للعمل، ودرجة للطالب الذي يُناقَش، والطالب الذي يُناقِش أيضا، وتُجمع تلك الدرجات، وتُرصد لكل طالب وطالبة درجته التي جمعها من مُجمل هذه التقويمات.
وعلى هذا التقسيم تقوم المجموعة الأولى المكونة من طالبين، أو طالبتين بإرسال العمل إلى بقية المجموعة، فيطّلعون عليه قبل يوم المحاضرة، ثم يقوم الطالبان أو الطالبتان المُقرر عليهما المناقشة بمناقشة أصحاب العمل، وإظهار مواطن القوة والضعف، مع إتاحة الفرصة للمناقَشين بالرد والتوضيح، ثم يقوم بقية الطلاب والطالبات بتقييم ما يحدث أثناء ذلك الدرس من أعمال ومناقشات، ويرسلونها للدكتور الذي يضمها إلى أعمال الطلاب والطالبات.
فإذا انتهى المناقشون من مناقشة أصحاب العمل انبرى أستاذ المقرر للنقد والتعليق، فيقف على العمل، وعلى حسناته وسيئاته، ويُعلِّق على جهد الطالبين أو الطالبتين، كما يُناقش، ويُحاور، ويسأل، ويستفسر، ثم يُعرِّج على ما قاله المناقشان، وما أثارا أثناء مناقشتهما، كما يُتيح لبقية الطلاب والطالبات التعليق، والمشاركة، والنقد، وما تكاد تنتهي المحاضرة إلا وقد وقف الجميع على هذا العمل، واستوعبوا ما فيه، وصار جليّا لهم، بطريقة علميّة رائعة ورائدة، بعيدا عن مجرد الإلقاء الذي لا يعود بنفع، ولا يقضي وطرا.
إن أعظم ما ندمت عليه في تلك الأيام أنَّا لم نجد فرصة لمناقشة الأستاذ الدكتور: سليمان بن علي الضحيان في جوانب كثيرة كان له فيها بحوث وأعمال مميزة، ولم نجد وقتا للاطلاع على جوانب من أساليب البحث التي رأينا أثرها فيما بعد على طلابه الذين أشرف عليهم في رسائلهم، ندمت كثيرا أن الوقت كلّه صُرف في مفردات المقرر، ولم نجد فرصة للاستزادة من فكره، وعلمه، ومنهجه، ومجالات إبداعه.
لكني استدركت ذلك القصور عندما عرضت بعض أعمالي عليه في بحوث نُشرت، وكانت بصمته فيها واضحة، فله نكهةٌ خاصةٌ في البحث، وجَلَدٌ ظاهر في متابعة أعمال الباحثين، ودعمهم.
وقبل الختام: كان للدكتور سليمان بصمته في الاختبار الشامل، حيث قرر الجزء الثاني من كتاب (مغني اللبيب عن كُتب الأعاريب) لابن هشام الأنصاري، وهذا الجزء بالذات يقيس مهارة الطالب في استيعاب المسائل، وعرضها، والاستشهاد عليها، وهو ما طلبه منا في الاختبار الشامل، فقد طلب مسائل منه، مع الشرح والتعليل، والاستشهاد والمناقشة المستفيضة.
وما زال أستاذنا القدير إلى وقت كتابة هذا المقال يُبدع بحثا، وفكرا، وإشرافا، وعملا مستمرا لا ينقطع، وما زال علمه يضرب في كل المجالات، ويصل إلى طلبة العلم داخل البلاد وخارجها، فجزاه الله عنا وعنهم خير الجزاء وأوفاه.