أ
ماذا يعني لي كمثقف مهموم بلغته وهويته القومية حين أقرأ في البيان الختامي للقمة العربية الـ32 نصا يشدد على أهمية المحافظة على الهوية العربية وترسيخ ثقافتنا الأصيلة في ذهن أبنائنا وبناتنا، وتكريس اعتزازهم بقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا الراسخة، مع الوعد ببذل كل جهد ممكن في سبيل إبراز موروثنا الحضاري والفكري ونشر ثقافتنا العريقة، لتكون جسرا للتواصل مع الثقافات الأخرى؟
وفي المقابل، كيف أفهم مضمون مبادرة تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، والتي لا تقتصر على غير العرب من الراغبين بتعلم اللغة لأهدافهم الخاصة، وإنما تستهدف أيضا أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين العرب؟
حتما الأمر يجب أن يكون أعمق من نص تقليدي في قمة اعتيادية، ذلك أن رئاسة القمة ليست اعتيادية بكل المقاييس، كما أن طبيعة هذه القمة من حيث تكوينها السياسي كان مختلفا، فالرئاسة والدولة السورية قد استعادت حضورها من بعد اثني عشر عاما من العزلة، والصراع الإقليمي يكاد يتلاشى في ظل تفكك عرى الخلاف بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران، وهو ما ستنعكس آثاره الإيجابية على بقية ملفات المنطقة.
في ظل هذا الجو المختلف سياسيا يمكن قراءة المبادرة بوعي ثقافي أكثر من كونها مبادرة إجرائية، وما أكثر المبادرات والقرارات التي اعتادت الجامعة العربية تكرارها طوال مختلف العقود ودون أن يكون لها أي تأثير، لكني أؤمن بأن هذه المبادرة ستكون مختلفة في هذه المرة، ليس لأني أؤمن بدور الأمانة العامة للجامعة العربية، وإنما لأني أثق بشخصية رئيس الدورة الحالية وحزمه وعزمه على تنفيذ ما يعلنه ويتبنى فعله.
أمام هذا الإيمان أدرك بأن المبادرة المعلنة تعني في المسكوت عنه، واجب الاهتمام باللغة العربية في بيئتها الحاضنة الأصيلة أولا، إذ لا فائدة من تعليم أبناء المهاجرين لغة باتت منسية وفي طريقها للاحتضار في موقعها الأصلي. وكأني بسمو الأمير محمد بن سلمان ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، رئيس قمة جدة العربية، يشير إلى أن تبدأ الدول العربية فرادى ومجتمعة بتنفيذ مشروع إحياء اللغة بهدف الحفاظ على الهوية، إيمانا منه بأن اللغة وجود.
حقا اللغة وجود، وهي حياة، وقبل ذلك وبعده فهي للمسلمين دين وقربى، إذ ترتبط لغتهم العربية بالقرآن الكريم الذي فرض الله علينا تعبده بحروفه وألفاظه، بمعانيه وأحكامه؛ لكن ذلك لا يكفي لتكون لغة حية، وحتى يتحقق إحياؤها، يجب أن تكون لغة العلم الرئيسة، الذي به تنمو الدول وتنهض المجتمعات، وبالتالي تصبح لغة التداول في الشأن الاقتصادي والسياسي والحياتي بمختلف صوره.
ولا يتأتى ذلك ابتداء إلا من خلال الاهتمام بالترجمة ونقل المعرفة، وهو مشروع دولة بامتياز، وللأسف وخلال العقود الطويلة، تاه هذا المشروع بين مختلف الدول العربية، وتفرق دمه بين عواصمها المكلومة، ولم تقم الأمانة العامة للجامعة العربية بأي دور مركزي فيه، فزاد ذلك من إخفاقها، وأفقدها ما بقي من ثقة واهتمام.
في هذا السياق أشير إلى أن كل الدول التي نهضت بنفسها قد اهتمت بتنمية مشروع الترجمة ونقل المعرفة وجعلته أولوية عظمى، إيمانا منها بأن الفهم بخطوة واحدة أعظم درجة من الفهم بخطوتين، وهو حالنا نحن أيضا، فلغتنا العربية بالنسبة لنا هي اللغة التي تشكلت في وعينا جينيا، فالجنين في بطن أمه يسمع حديث أبويه ومجتمعه، ثم يتكرس ذلك حال ولادته وطفولته ونشأته، وحين يتعلم لغة أخرى ستكون ثانيا مهما كان مجيدا لها، وسيأخذ فهم أي مسألة عبرها وقتا للترجمة التلقائية حتى لو كان متقننا للغة الأخرى إنجليزية أو فرنسية أو غيرها، أما الفهم بلغته الأم سيكون مباشرا ودون واسطة.
إنها الحقيقة التي أدركها قادة الدول المتقدمة، فاهتموا بمشروع الترجمة ليكون مشروعا استراتيجيا ليس للحافظ على هويتهم وحسب، وإنما للتقدم علميا وإتاحة الفرصة لأكبر نسبة من أبنائهم للمشاركة في البناء العلمي والمعرفي.
وهو ما أرجوه من سمو ولي العهد، رئيس مجلس الوزراء، رئيس قمة جدة العربية، الأمير محمد بن سلمان، وأطمح إلى أن يعزز من مشروع الترجمة ليصبح مشروعا وطنيا قوميا استراتيجيا يتم من خلاله ترجمة كل ورقة وكل بحث وكل كتاب علمي إلى اللغة العربية، وفرض اللغة العربية لتكون لغة رئيسة في مؤتمراتنا المتنوعة، وتحفيز الجامعات السعودية إلى بناء خطة علمية استراتيجية لتدريس مختلف العلوم التطبيقية باللغة العربية، وبذلك نعيد إحياء اللغة وننقذها من مواتها، وتصبح حاضرة بثقة واعتزاز في مختلف المحافل الدولية. فهل إلى ذلك سبيل يا ولي العهد؟
مرسل من الكاتب للوكاد
ll
zash113@