ا أشبه الليلة بالبارحة، تمر السنين، بل عشراتها، وتتغير طبيعة الأحداث، وتبقى أساليب الخداع ذاتها، وكما كانت فاعله قبل عشرين عاماً، هي فاعلة اليوم، وكما سنكتشف زيفها بعد عشرين عاماً، كما اكتشفنا سابقتها، تبقى مؤثرة وتقود الرأي العام وبخاصة من يبحثون عن ذرائع لتمرير باطلهم. التلاعب العقل الجمعي ينشط في كل أزمة، وينكشف التضليل لاحقاً لكن لا مانع من إعادة الأساليب نفسها مع كل سانحة.
عشت أحداث 11 سبتمبر 2001م في قلب واشنطن، ورأيت العجب المضحك المبكي من أساليب التضليل، واليوم أشاهدها بنفس الوتيرة في الإعلام الجماهيري الأمريكي وعلى ألسنة المحللين الغربيين الذين تستضيفهم القنوات العربية. يبيعون علينا بضاعة مزجاة، وحبكات من الأكاذيب التي تمرر بكل سهولة وبدون تحدٍّ لتلك الروايات الخادعة.
بعد أحداث 11 سبتمبر مُرّرت كذبة الجواز السعودي، الناجي الوحيد تحت أنقاض برجي التجارة العالمية في مانهاتن، لا إطارات الطائرتين، ولا صندوقيهما الأسودين، ولا بقايا من الفولاذ لأيٍّ منهما، فقط وثيقة السفر السعودية هي الناجية في حريق قيل إن درجة حرارته بلغت المئات، لتصنف على تلك الكذبة قصص متخيلة لحشد الرأي العام ضد المملكة.
تجاوز الأمر ذلك إلى الرسالة التدمرية حيث وجدت المباحث الفيدرالية في إحدى المكتبات وترجمها لهم بعض العرب على أنها The destructive message، ونسجت عليها سرديات حول المؤامرة العربية الإسلامية لتدمير الحضارة الغربية، ثم لحقت به الأربعون النووية حينما ترجمت على أنها The Nuclear Forty لتسير بها الركبان على أنها دليل يشتمل على 40 طريقة لصناعة السلاح النووي، وليولد مصنع الأكاذيب المزيد من منتجات التخويف من الآخر. أحد مشاريع التضليل التي أنتجت بعد 16 عاماً من تلك الحادثة كان كتاب د. سعود ومستر جهاد للفرنسي بيير كونيسا، الذي كتب عن سعودية قادرة على ابتلاع العالم؛ إنه فن التخويف والتضليل.
يوم تعيد تغطية حرب الإبادة في الإعلام الغربي ذات النمط من مصنع الأكاذيب نفسه. فلماذا يتم التأثير والتلاعب بآراء الناس وتصوراتهم وسلوكياتهم بنشر معلومات مضللة، والمبالغة في الحقائق، وخلق شعور بالإلحاح أو الخوف؟ إنها محاولات دؤوبة لزرع الارتباك، وتعزيز الروايات الكاذبة، وتقويض الثقة في المصادر المشروعة. يستدرون عواطف العامة من خوف وغضب وأمل، للتعتيم على جرائم إسرائيل بالترويج للخوف، والمبالغة في التهديدات والمخاطر المحدقة بالكيان الصهيوني لإذاعة الخوف وجعل الناس أكثر قابلية لتبرير تلك الجرائم.
يتحدث محلل غربي على قناة عربية عن وجود حاسبات محمولة وثابتة في قسم الأشعة المقطعية في مستشفى الشفا، ويعتبرها أسلحة حرب استخدمتها حماس، وكأنه وجد كشفاً غير مسبوق، بينما وجود هذه الأجهزة لا يختلف عن وجود كتاب الرسالة التدمرية على رفوف مكتبات العلوم العربية والإسلامية. وغداً سوف نشاهد ونسمع عن أنفاق المجاري والبيارات على اعتبار أنها قواعد عسكرية لحماس وسيتم تسويقها بسهولة على العقل الغربي
إنهم يقدمون معلومات وبيانات بشكل انتقائي لدعم روايتهم مع تجاهل الأدلة المقابلة، والتقليل من أهميتها، مما يخلق انطباعاً مضللاً ويؤدي بالناس إلى استخلاص استنتاجات خاطئة. زيادة على ذلك لا يتوقف الأمر عند مصادرة الرأي الآخر وإنما مهاجمة الشخص الذي يقدم الحجة، بدلاً من الحجة نفسها. وتشويه سمعة المصدر وتحويل الانتباه عن القضية الفعلية إلى اتهام المخالف بمعاداة السامية أو دعم الإرهاب.
إن التكتيكات الخادعة تخلق بيئة ضاغطة على الناس لاتخاذ قرارات متسرعة أو قبول شروط غير مواتية، وخلق انطباع زائف بوجود دعم أو إجماع واسع النطاق لحق إسرائيل في قتل المدنيين العزل وإبادتهم من خلال بعث التحيزات المتأصلة، وتقديم اختصارات معرفية خادعة، مستغلين ميل الناس إلى تفضيل المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الحالية، ومبالغتهم في تقدير احتمالية الأحداث بناءً على السهولة التي يمكنهم بها تذكرها، بما في ذلك الإسقاط على المحرقة، ومفردات الخطاب القومي العربي والثوري الإسلامي حول تدمير دولة إسرائيل ومسحها من الخارطة، فيصبح الناس أكثر قبولاً للتضليل.
لا أريد التصديق أن أساليب التضليل في العام 2023م بالفاعلية ذاتها التي كانت عليها عام 2001م، فما يحصل الآن في غزة يجد معارضة للرواية المضللة، وعلى الرغم من توجه الشباب وبخاصة في الجامعات الأمريكية لمواجهة الأكاذيب بالحقائق، فإنهم يقمعون داخل الحرم الجامعي، وتمنع المظاهرات، ويحالون على تهم معاداة السامية. إن غزة ستلد وعياً لم يحسب أحد حسابه قبل الإقدام على تدميرها، وإنها ستوقد ضوءاً في نهاية النفق يقترب أكثر وأكثر من بعث هذه القضية في ضمائر الناس شرقاً وغرباً.
نقلا عن الجزيرة