بشكلٍ لا اشتراك في مدلوله، وأهمية التنظيم تستند إلى كونه المكمل للضروريات الخمس، فما كان لدولةٍ أن تتحمل مسؤولية تلك الضروريات على الكمال إلا إذا وفرت قاعدة بياناتٍ تُوصلُ إلى كل ما يُحتاجُ إلى تعيينه، وفي مقدمة ذلك الأشخاص، وهذا في الأحياء مُتقرِّرٌ، وإنما المنظور فيه إجراءُ مثلِهِ في مقابرهم بعد موتهم؛ نظراً إلى أن تعيين القبور بواسطة ترقيمها هو الضامنُ للدقة عند الحاجةِ إلى نبشها؛ لغرضٍ رسميٍّ كإكمال تحقيقٍ في جنايةٍ، أو لفحص الحمض النووي إذا توقفت الأحكام عليه، ونحو ذلك من القضايا الأمنية التي لا يخلو منها حال الناس، وهي وإن لم تكن غالبةً، لكن شؤون التنظيم يقتضي الاحتياط لها أن يُؤخذ غير الغالب بعين الاعتبار؛ لضمان التعاطي الصحيح معه إذا وقع، ناهيك أنه يقضي على العشوائية في تعليم الناس على قبور ذويهم، ولي مع ترقيم القبور وقفتان:

الأولى: محل النظر في ترقيم القبور أن بعض العلماء جعل الترقيم كالكتابة، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الكتابة على القبر في حديث أخرجه الترمذي وقال عنه: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، ومعلومٌ أن هذا النهي ليس تعبدياً محضاً، بل هو معقول المعنى واردٌ لحكمةٍ مقصودةٍ من تشريعه، وهذه الحكمة تدور حول دفع المفاسد الشرعية كدفعِ امتهانِ القرآن الكريم، ودفعِ التزكية المنهي عنها والإطراء، ونحو ذلك، ولا غبار على منع مثل هذه الكتابات، أما كتابة الاسم على القبر لمجرد التعرف عليه، فبعضُ العلماء قد أدرجوه في النهي، وقالوا بكراهته، ورأوه مُفضياً إلى الغلو فيه، وعلى افتراض أن كتابة الاسم تُوقعُ في الغلو إلا أن الترقيم لا يماثله من هذه الناحية، بل هو أقرب إلى ما ثبتت مشروعيته من وضعِ الحجر على القبر كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم بقبر عثمان بن مظعون في حديث أخرجه أبو داود، وحسنه ابن الملقن؛ وإنما كان الترقيم أقرب إلى وضع الحجر وليس كالكتابة؛ لأن كتابة الاسم يقرؤها العام والخاص فيشتهر القبر ويُمكنُ الغلو فيه، أما الترقيم ووضع الحجر فلا يُعيِّنان المقبور إلا لمن عرف صفة الحجر والرقم المعين الذي هو كالهوية، وليس من المعتاد الشهرة في مثل هذا، فالأرجح إلحاق الرقم بالحجر الذي يشبهه في المعنى والمآل الصالحين لإناطة الحكم الشرعي بهما، وهذا أرجح من إلحاقه بالكتابة التي لا يُشبهها إلا في الشكل الخالي من أيِّ معنى يصلح للإلحاق.

الثانية: لو افترضنا مساواة الترقيم لكتابة الاسم لمجرد التعريف، فالراجح جوازها إن خلت من المحذورات والمضامين السابقة، وقد نبه على ذلك الإمام الحاكم عقب تخريجه لحديث النهي، فقال: "وَلَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهَا، فَإِنَّ أَئِمَّةَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرْقِ إِلَى الْغَرْبِ مَكْتُوبٌ عَلَى قُبُورِهِمْ، وَهُوَ عَمَلٌ أَخَذَ بِهِ الْخَلَفُ عَنِ السَّلَفِ"، وقد تعقبه الذهبي بقوله: "ما قلت طائلاً ولا نعلم صحابياً فعل ذلك، وإنما هو شيء أحدثه بعض التابعين فمن بعدهم، ولم يبلغهم النهي"، وليس هذا التعقب بمكدرٍ على اعتبار كلام الحاكم؛ لأن الذهبي معترفٌ بأنه من عمل بعض التابعين فمن بعدهم، والمتبادر بلوغُ الحديثِ لهم، وحملهم للنهي فيه على الإطراء والتعظيم ونحوه دون كتابة الاسم للتعريف والاستدلال، وهذا أقرب من جهلهم للنهي في شيء شأنه الظهور والاشتهار، وأيضاً لعلهم قاسوا كتابة الاسم على وضع الحجر، وليس هذا أخذاً بالقياس وطرحاً للأثر، بل هو من تخصيص الأثر بالقياس، وهو مذهب الكثير من الفقهاء، وقد نبه الشوكاني على ذلك عند شرحه للحديث، فقال: "وَهُوَ مِنْ التَّخْصِيصِ بِالْقِيَاسِ، وَقَدْ قَالَ بِهِ الْجُمْهُورُ، لَا أَنَّهُ قِيَاسٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ"، وقد جوَّز كتابة الاسم على القبر لمجرد التعريف كثيرٌ من العلماء منهم بعض الحنفية وبعض الشافعية، وممن اختاره من علماء عصرنا الشيوخ السعدي وابن عثيمين والألباني رحمهم الله تعالى، قال ابن عثيمين: "وأما الكتابة على القبر فإن كانت كتابةً شركية مثل أن يكتب عليه هذا وليُّ الله فادعه أيها المضطر وما أشبه ذلك، فهذه لا شك في تحريمها، وإن كانت كتابة عادية ننظر فإن كانت كتابة فيها الافتخار والفخار والمفاخرة بهذا الميت فهي حرامٌ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الكتابة على القبر، وإن كانت لمجرد التعريف على صاحب القبر مثل أن يُكتب: هذا فلان بن فلان، فأرجو أن لا يكون بهذا بأسٌ، ويكون النهي عن الكتابة محمولاً على الكتابة المحرمة"، ونَقَلَ مِثْلَ هذا عن شيخه السعدي، والتعويل على مذاهب القائلين بذلك سائغٌ لا سيما إذا كان لقصد المصلحة العامة.

نقلا عن الرياض