هناك ضخ مستمر لملامح إنجازات قد يتم تضخيمها، وهي أحيانا لا تعدو أن تكون مؤشرات أو أرقاماً متوقعة أو دراسات تعتمد أرقاما على الورق، ولم تصبح بعد حقائق يمكن الوثوق بملامحها ونتائجها.
وعندما يأتي بعض الضخ الإعلامي المستمر مع التضخيم المبالغ فيه من قبل جهات علمية وقطاعات يفترض فيها أن تكون أكثر دقة ومساءلة وبحثا في مضامين الإعلانات والأخبار والاحتفاليات المصحوبة بوافر من التصريحات البراقة واللافتة .. فهذا يستدعي التوقف ويستدعي تحليل ظاهرة نمت في السنوات الأخيرة على نحو غير مسبوق.
وهنا تصبح لازمة ( كلام جرائد) كما يردد البعض عندما يريد أن يقلل من أهمية بعض ما ينشر في الصحافة، أو لا يريد أخذه مأخذا له محله من الاعتبار... وقد تصبح هذه اللازمة أكثر من حقيقة حول ما تتصدره عناوين لقطاعات تبشر بتحولات نوعية وتنشر أخبارا وتطلق تصريحات تتطلب المزيد من البحث والتدقيق والمراجعة خاصة إذا كانت تلك التصريحات تتحدث عن تقدم غير مسبوق ومواقع مميزة ومقارنات مذهلة مع عالم متقدم، حتى لنظن للوهلة الأولى أننا غادرنا العالم النامي إلى الأبد.
والمتابع لبعض ما ينشر من عناوين في الصحافة المحلية سيجد الكثير من العناوين البراقة واللافتة.. التي لو تم فحصها ومساءلتها فهي قد لا تستحق إضفاء هالة الانجاز الكبير. الاقتراب من هذه الظاهرة يكشف عن أن هناك من يستغل جهل القارئ بالمضامين التي تنطوي عليها تلك الأخبار، أو عدم قدرته على فحص تلك العناوين، ويزيد في هذا غياب صحافة متخصصة لديها قدرة للوصول إلى المعلومة الدقيقة من مصادرها وبحث علاقاتها وإثارة أسئلتها ووضعها في حجمها الطبيعي لكشف هذا النوع من الاستخدام المكثف والمستمر للإعلام للبحث عن شهادة استحقاق.
جامعة كبرى تنشر خبرا كبيرا بحصولها على براءة اختراع .. وتضفي على هذا الخبر طابع الانجاز الفريد. بينما المعروف أن براءات الاختراع يمكن أن يحصل عليها أي مخترع أو مبتكر حتى دون أن يكون عالما يحمل سجلا بحثيا مميزا، ويستطيع أن يسجلها في الولايات المتحدة الأمريكية مثل ما فعلت تلك الجامعة. لم يكن السؤال ماذا يعني تسجيل براءة اختراع إذا لم تتحول إلى منتج صناعي أو تقديم حل علمي لمشكلة تنموية أو تتطور شهادة البراءة إلى مستوى توفير خطوط إنتاج تشكل قيمة مضافة للاقتصاد الوطني؟
جامعات تطور مواقعها الالكترونية بعقود باهظة الكلفة، وتنمي عدد بحوث أعضاء التدريس لتصل إلى مستويات متقدمة كل عام في التصنيف العالمي ضمن معايير معروفة ومحددة، إلا أن السؤال ماذا تعني تلك البحوث طالما هي بحوث ترقية لأعضاء هيئة تدريس، ويجب أن توضع في إطارها الطبيعي دون مبالغة وتضخيم. ليكن إنجازا، لكن التضخيم والمبالغة وتسويق وهم العالمية حملة مضرة.
هيئة اقتصادية كبرى باعت كثيرا من الأوهام، وهي تتحدث عن تسهيلات لاستثمار أجنبي سيوفر مئات الآلاف من فرص العمل، ويزيد عائد الاقتصاد المحلي من الإنتاج ويساهم في نقل التقنية المتقدمة، ويجعلنا ندخل بكل ثقة عالم صناعة المعرفة، بل سنكون مصدرين للمعرفة بعد أن كنا مستهلكين لها. وقد تمضي عدة أعوام لنكتشف ضرر هذه التصريحات وعدم تحفظها وانبهارها بالإعلان، وكأنها تراهن على ذاكرة قصيرة سرعان ما تستسلم لضخ جديد.
لماذا بدأنا نفقد تلك الملامح المحافظة في مسيرة التنمية حيث لم تكن الإعلانات الكبيرة تظاهرة إعلامية مستمرة، وكنا دائما نقول ونردد إننا في بلد لا يعلن عن المشروعات حتى تصبح حقائق على ارض الواقع،وليست مجرد أمنيات أو توقعات أو دراسات أو إجراءات، وربما اكتشفنا بعد فترة أن ضرر الإعلان عنها بهذه الطريقة كان أكثر من نفعها.
أما قياس النتائج حتى اليوم تبدو ليست فقط متحفظة، ولكنها غير واثقة إلى حد كبير تجاه إمكانية تحقيق تلك الأحلام / الأوهام على معبر بعض الانجازات الإجرائية التي تم تضخيمها وحشوها وبيعها للناس.
تقديم أرقام عن تسهيلات وحوافز وإجراءات باعتبارها انجازا كبيرا، لا تعدو أن تكون سلاحا ذا حدين، فهو إن كان مفيدا للمؤسسة أو الجهاز أو القطاع باعتباره انجازا رغم تواضعه، إلا انه أيضا يضعها أمام مسؤوليات مجتمع لا يعنيه سوى العائد منها على وضعه ومعاشه وقضاياه.
مسؤول يصرح أننا سنكون دولة مصدرة للطاقة الشمسية خلال العقدين القادمين، حسن، لا سؤال من متخصص أو خبير كيف سيتم هذا، وما هي المشروعات التي عجز عن إبداعها هذا العالم المتقدم ليستغني عن نفطنا، وهو بأمس الحاجة لمصدر طاقة متجددة. بينما هذا المسؤول يعلن بكل ثقة بأننا سنصدرها للعالم مثل مانفعل مع النفط اليوم .. بعد أن نكون شبعنا من فوائضها استخداما وتوظيفا.
بعض التصريحات الصحفية لمسؤولين آخرين تتجاوز هذا، لتتحدث عن نقل تجربتنا في مجال أو آخر لدول أخرى، ليست من دول جنوب الصحراء الأفريقية، وليست دولا متعثرة، إنها دول قطعت شوطا لا يستهان به، وتدرك أننا نطرب لأوهام تسويق الذات على معبر انجازات مازلنا لم نتذوق نتائجها بعد.
أما تلك التصريحات التي كثيرا ما أخذناها على محمل الجد، وهي تتحدث عن مشروع سيرى النور بعد عامين أو ثلاثة أو أكثر. وهي رزمة مكثفة من تصريحات تتسع دائرتها مع كل خطة أو استراتيجية... من الفقر إلى التأمين الصحي، ومن البطالة إلى الإسكان.. ولكن تمضي الأعوام تباعا، دون أن نرى أو نلمس اثر شيء منها، ولو اتسع الوقت لباحث لوجد أن تلك التصريحات التي لا تتحفظ مازالت تبيع وهم الانجاز حتى اليوم وبلا قلق من مساءلة أو متابعة.
بعض الانجازات للإنصاف حقائق، إلا أنها لا تحتمل هذا التضخيم والنفخ فيها حتى بدت تتسع لواقع اكبر منها وتحدّ يتجاوزها. إلا أن التجاوز يكمن في إضفاء حلة أوسع من الواقع على منجزات تبدو عادية ولا تستدعي تلك الزفة الإعلامية والمؤتمرات الصحفية.
تأتي بعض التصريحات لتضعنا على مرمى عملية تقدم لا تحتاج أكثر من بضع سنوات لنرى نتائج مذهلة وتقدما كبيرا وإدماجا اقتصاديا لمخرجات المعرفة... هذه الثقة المفرطة في الإعلان والتصريحات إما أن يكون مصدرها الجهل بمقومات التقدم والبيئة التي يعمل وينشط فيها، أو نوعا من التجاهل لقدرة الشارع على فحص هذه التصريحات والوقوف منها موقف المتسائل والباحث والمستشكل.
أرجوا ألا يراهن هؤلاء على ذاكرة قصيرة. وأرجو من المعنيين بالمتابعة حصر تلك التصريحات وتوثيقها والانتظار فقط بضع سنوات، ولتكون جردة حساب بعد أن يأخذ كل مسؤول ما يكفي من الوقت والإمكانات لتحقيق تلك الرؤى. وفي حال تحققت فلهم منا كل تقدير والاعتراف حتى بخطيئة التساؤل في وقت مبكر، وإذا لم يتحقق فعليهم أن يقولوا لنا لماذا لم يتحقق، ولماذا جازفوا بتلك التصريحات المجانية.. وسيكون السؤال أين ذهبت تلك الأموال والفرص التي لا تقدر بثمن، بل أين ذهبت تلك السنوات التي لا تعوض بحال.. ما هو حصاد نتائج مرحلة كانت تروج لأرقام وخطط ذهبت مع الريح؟!!.
نقلا عن الرياض