من يصدق أن الطالبات اللواتي تجمعن أمام بوابات جامعة أم القرى، أو أخواتهن اللاتي رفضن فكرة إغلاق القبول في جامعة الأميرة نورة، ينتمين إلى تاريخ تعليمي انطلق وسط آراء ترى في تعليمهن أمراً يستحق المعارضة والرفض والتحفظ، ومن يتوقع أن سلالة السعوديات تنتج جيلاً بهذا الحزم والقوة في الحصول على حقه والخروج من حالة الإذعان والتسليم إلى حالة المطالبة والاحتجاج.
مقاطع الفيديو التي تناقلتها مواقع الإنترنت لطالبات جامعة أم القرى ولطالبات جامعة الأميرة نورة تشير وبشكل يدعو للقلق أحياناً إلى أننا لا زلنا نعتقد أننا نتعامل مع عباءات ذات ملامح واحدة ولون واحد، ومع ذوات مستورة وغير مرئية، متناسين أنهن يريننا حقاً، ويستطعن تمييز ملامحنا ومواقفنا وأحجامنا، وبالتالي يمتلكن ما يتيح لهن الحكم علينا، والوقوف ضد كل ما يمسهن، خاصة حين يكون غير منطقي ولا وطني، وهو ما يعني أننا أمام ذوات تحمل منطقاً مدنياً يفرق بين الحقوق وبين التسليم والامتثال المطلق الذي لا معنى له.
طوال السنوات الماضية ظل خطابنا في كثير من جوانبه يتعامل مع قسمين من المجتمع قسم حقيقي وقسم رديف، نخاف منه أن يتعلم، ونخاف منه أن يعمل وأن يسافر وأن يحصل على هوية وطنية، وكلها مواقف أدت إلى إخلال بالمشهد الاجتماعي وأركانه، مما أثر في مسيرة النماء المجتمعي.
الجانب الأبرز من تلك المعادلة كان ناجماً عن حالة من الممانعة الثقافية الاجتماعية، التي تصدى لحملها خطاب فقهي تقليدي ظل يلح على المرأة كموضوع لا كذات، وكقضية لا ككيان وكملحق اجتماعي لا كفاعل وشريك اجتماعي، وساهمت الثقافة التقليدية في رفد تلك الممانعة وتبريرها، لكن زمن المؤسسات لا يعترف بالتمييز أو على الأقل، يسعى لوضع خطوات تسهم في التخفيف منه، وذلك جزء من الأداء الطبيعي للدولة الحديثة، وبالنظر إلى تاريخ المرأة السعودية سوف نجد أن كل تطور شهدته تلك المسيرة وكل تحولاتها الإيجابية إنما جاءت من خلال مؤسسات الدولة الحديثة، وليست ناجمة عن مطالبة اجتماعية – على الأقل في مراحلها الأولى – إنما وبنوع من إعلان الطمأنينة وتقديمها كأهم وسيلة لتمرير كل ذلك، ومثال انطلاقة تعليم المرأة في المملكة يكشف كيف أن الخطوات الإيجابية في حياة المرأة بدأت كمبادرات من المؤسسة وليست كمطلب اجتماعي، وكيف احتاجت المؤسسة إلى تقديم كثير من عوامل الطمأنينة، وهو ما أفرز كثيراً من التعقيد بعد ذلك، حين ظن الممانعون أن تلك العوامل يجب أن تحظى بصفة الثبات والاستمرار وأنها أشبه بعقد بينهم وبين المؤسسة، وكلنا نتذكر ردود الفعل التي شهدها قرار دمج الرئاسة العامة لتعليم البنات مع وزارة التربية والتعليم.
إذا كانت كل المبادرات الإيجابية قد بدأت من لدن المؤسسة إلا أن تطويرها بات مطلباً اجتماعياً ومستقبلياً ملحاً، يشهد هذا المطلب الآن ممانعة مماثلة لتلك التي شهدتها المبادرات حين انطلاقها، وهو ما يعيدنا أكثر إلى الإلحاح على دور المؤسسة ومسؤوليتها، لأن المجتمع الآن يقف في صف المؤسسة ولم يعد قابلاً للتوجيه من قبل تيارات الممانعة.
خلال تلك السنوات تصاعد نمو الوعي لدى شرائح واسعة من النساء السعوديات، أنتج جيلاً جديداً ساهمت مختلف العوامل الاتصالية والتقنية في تغيير مصادر المعرفة لديه وضمن حركة نمو اجتماعي أثبتت لنا أن العباءة لم تكن تستر العقل ولا التفكير، ولكنها مجرد زي اصطلح عليه المجتمع وحمله من المعاني ربما أكثر مما يحتمل. وبالتالي فلن تقف حائلاً أمام نمو الوعي والبحث عن الحقوق، وكما علق عبد الرحمن الراشد، فقد توقع المسؤولون في الجامعة أن الطالبات حين يجدن الباب مغلقاً سوف يكتفين بالعودة إلى منازلهن والجلوس أمام التلفاز.
إننا أمام جيل من السعوديات استوعب المعادلة الاجتماعية جيداً، فليست قضية هذا الجيل أن يكشف وجهه في شارع التحلية مثلاً، (بإمكانه أن يقوم بذلك حين يسافر ومع العائلة إلى أي مكان) لكن قضيته في الحصول على حقوقه وانتزاعها من يد الأخطاء الإدارية ومن يد الممانعة الاجتماعية، وهو يستقوي في نيل حقوقه بما يؤمن به من إرادة ملكية لا تأتي توجيهاتها على سبيل أفكار فقط، وإنما على سبيل تفاصيل، والطالبات اللواتي تجمعن أمام بوابات القبول والتسجيل في جامعة أم القرى، كن يرفعن شعار أن الملك وجه بقبول الجميع، وأنه هو من سينتصر لهم ويمنحهن حقوقهن في حال وقفت الأخطاء الإدارية دون ذلك.
أوجه القصور الإداري هي الخصم الحقيقي الآن للسعوديات، ومقطع الفيديو الذي ظهر من جامعة الأميرة نورة يكشف بوضوح حالة من الاستخفاف الإداري الذي مثله مشهد رجل يحمل مكبر صوت - كالذي يحمله الباعة في حراج السيارات - وهو ينادي على الطالبات ويعدهن بأن العميدة سوف تنظر في أمرهن، لكن السؤال الفعلي هو: أين كانت العميدة؟
إن طموح الملك في جامعة الأميرة نورة، وفرحته وهو يدشن مقرها الجديد، أكبر من أن يدار بذهنيات وأساليب يمكن أن تنتج مثل ذلك المقطع، ذلك الافتتاح الذي كان فرحة كبرى للوطن، لم يكن من أجل تنصيب عميدة ووضع حراس على بابها، ولكن من أجل الطالبات اللواتي ينتظرن أمام مكتب العميدة، ومع الرجل صاحب مكبر الصوت.
نقلا عن الوطن السعودية