من المفارقات العجيبة في العهود الأخيرة أن التيارات الإسلامية التي كانت ترفض الطريقة الديموقراطية في تداول السلطة في الإعلام العربي تعود لتستلم السلطة بالطريقة التي كانت ترفضها وليصبح الكثير من الإسلاميين من المنظرين لها بوصفها الطريقة المثلى في تشكيل الحكومات.
نحن هنا أمام تحولات عميقة في بنية خطابات الإسلام السياسي، فضلا عن بنية المجتمعات العربية نفسها التي كانت تهيمن على تفكيرها الرؤية الدينية التقليدية إلى رؤى أكثر انفتاحا من ذي قبل، مع بقاء الكثيرين على حالتهم دون تحرك في الوعي لديهم حتى في أقل مراحله، وهذا شيء طبيعي، فحتى في معاقل الانفتاح العالمي الغربي والحداثة ستجد من يعود إلى الوراء كثيرا، لكن تبقى سيرورة التاريخ تسير إلى نوع من الوعي أكثر ( على الأقل فيما هو ظاهر حتى الآن فحالة الارتداد التاريخي يمكن أن يحصل في أي لحظة)، وقد لزم على الخطابات الإسلامية تطوير آلياتها الثقافية والسياسية لتتماشى مع جانب من جوانب العصر والتي كانت الديموقراطية أهم منجزاتها الحضارية التي سارت عليها بعد أن كانت تلك الديموقراطية في نظرهم آلية حكم غربية لا تصلح في الحكم الإسلامي.
بعض الخطابات الإسلامية التقليدية مازالت ترى في الديموقراطية أنها خارج مفهوم الدولة الإسلامية، ومازال البعض يحلم بإعادة دولة الخلافة مع أن المعطيات المعاصرة تختلف عن مفهوم الخلافة، وبعضهم يعيد مفهوم الخلافة إلى مفهوم استخلاف الأمة وليس الأشخاص، وعلى اختلاف الكثير من الرؤى الإسلامية حول مفاهيم السلطة في الإسلام، إلا أن أكثريتها بدأت تتجه نحو الفكرة الديموقراطية وتعزيز مفهوم الحرية السياسة (مازلت أشك في مفهوم الحرية العام لديهم كالحريات الفردية مثلا).
في عنوان المقال وضعت كلمة الديموقراطيات من غير علامة تنصيص في حين تعمدت أن أضع علامة التنصيص على كلمة «الإسلامية» على اعتبار أن الديموقراطية أوسع من مفهوم الحزبية الإسلامية التي انتهجتها التيارات الإسلامية طيلة السنوات الثمانين الماضية كالإخوان المسلمين، وقبول الإسلاميين بالديموقراطية هو قبول في مفهوم التداولية الحزبية أو التيارية للسلطة، وهذا تطور كبير في بنية الفكر الحزبي الإسلامي ما لم ينقلبوا على الرؤية الديموقراطية ولا أعتقد أن باستطاعتهم ذلك، لأن القبول بالديموقراطية يعني قبولا بشروطها أو مبادئها كالمساواة والحرية التي تفترض ضمنا مساواة في المواطنة والحريات الدينية والتعبيرية والفردية، وهذا يضرب في بنية الخطاب الفكري لدى غالبية التيارات الإسلامية حيث كانت ترى فرض الرؤية الدينية على الجميع لكننا أمام لعبة ديموقراطية رضي الناخبون الإسلاميون أن يلعبوها، وهذا جزء من العمل السياسي الذي يحقق المصلحة الحزبية أو الاجتماعية أكثر من الحفاظ على الرؤى الفكرية أو القيمية سواء للمجتمعات العربية أو للتيارات الإسلامية، فسياق الدولة والسلطة سياق في طبيعته مدني، وليس دينيا، أي علمنة مخففة، ولو كانت مصاغة بشعارات دينية.إننا أمام تحولات كبيرة سوف يفرضها سياق الديموقراطية في العالم العربي الجديد، وهذه التحولات تطال الخطابات الإسلامية قبل غيرها مما يعني أننا أمام مفترق طرق بالنسبة لتك الخطابات فإما أنها تفرض على ذاتها تطوير خطابها الفكري وتعزيز القيم الإنسانية والتنموية، وإلا فإنها سوف تخسر الكثير في مستقبل الأيام؛ فضلا عن إمكانية احتدام الصراع الإسلامي/ الإسلامي؛ أي الصراع الفكري بين الخطابات الإسلامية فيما بينها.
نقلا عن عكاظ