هل تخلت أميركا عنا أو لنقل عن منطقة الشرق الأوسط برمتها؟ وهل وصل الملل بالأميركي ونفاد صبره علينا؟ دول وشعوب إلى درجة اليأس من أن يكون هناك أي بصيص أمل في المستقبل لحياة مستقرة منتعشة اقتصادياً واجتماعياً.
بالطبع، الموضوع ليس بهذه البساطة، لكنه قريب جداً في نتائجه العامة، فأميركا ولأسباب عدة، تجد نفسها اليوم في حل من أي التزام أخلاقي أو أمني مع دول الشرق الأوسط، وهي تريد طلاقاً بائناً لا رجعة فيه، ولكن مع وضع ترتيبات تعتقد أنها كفيلة بتسيير المنطقة بالوكالة لعقود مقبلة من دون أن تضطر إلى التدخل. في 2003، احتلت أميركا العراق، لا لشيء، لكن لتسيطر على منابع النفط العراقي، وأقول هنا: «تسيطر ولا تسرق»، أي أن أميركا أرادت التحكم في نفط منطقة الشرق الأوسط، والملبي لـ60 في المئة من حاجة الدول الأوروبية و90 في المئة من حاجة اليابان وكوريا والصين، وهذا يمنحها اليد الطولى في تنفيذ سياساتها وتمرير مشاريعها المستقبلية في العالم، بخاصة مشروع الدائرة الذهبية في المحيط الهادي والهندي المقبل بقوة.
إذاً وبعد 10 أعوام، تستكمل أميركا ما بدأته من تفكيك لمنطقة الشرق الأوسط، فها هي تنشر الفوضى، وتستبدل دولاً إقليمية بأخرى، مع محاولات لترك المنطقة بين يدي جناحين إقليميين، هما الجناح الإيراني وما يطويه من دول العراق وسورية وحزب الله، وفي المقابل، جناح الإخوان المسلمين وما يطويه أيضاً من دول مصر، سابقاً، وتركيا وتونس وليبيا وقطر، ثم ترك الدول الحليفة القديمة (السعودية والبحرين والكويت والإمارات الأردن) لمصيرها.
إذاً، أصبحت أميركا اليوم أكثر تفهماً لإيران القادرة على صناعة «القنبلة النووية»، لكن لا تصنعها في مقابل إعطائها قيادة الإقليم الشرق الأوسطي.
لكن هل هذا التفكير الأميركي هو ترتيب بقاء أم ترتيب رحيل عن المنطقة؟
في الغالب إنه ترتيب «رحيل»، يغذيه ملل حقيقي من المنطقة حكومات وشعوباً، وفشلها في إنتاج أي حل سياسي أو اجتماعي أو ديموقراطي طوال أكثر من 50 عاماً، إضافة إلى اكتشافات النفط الصخري ووصول الإنتاج الأميركي أخيراً إلى ما يوازي السعودية، وهو ما يعني أيضاً انتفاء الحاجة الاقتصادية.
كما أن أميركا ترى أن بقاءها إمبراطورية مسيطرة خلال القرن المقبل يتطلب تخليها عن هذه المنطقة المضطربة المتراجعة اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، والتوجه إلى ما يمكن تسميتها بدائرة الاقتصاد الذهبي الجديدة، الممتدة من كوريا الجنوبية والصين وتايون وتايلند ومن ثم الهند والعودة إلى إندونيسيا وماليزيا وأستراليا ونيوزيلندا، وصعوداً إلى أميركا وكندا واليابان. ولذلك، فإن العالم الجديد سيكون هناك. ما يحصل اليوم وكأن شريكاً يريد بيع حصصه في المنطقة، لكنه ويا للأسف لم يبعها لمن لهم حق الشفعة، بل ذهب إلى منافسيهم اللدودين، وأدخلهم شركاء عنوة في إدارتها. ويجب ألا ننسى أن التخلي الأميركي عن تقديم المعونة لمصر هو أيضاً لم يأت كرد فعل فقط على سقوط الإخوان الحليف الآخر في الترتيبات، لكنه تدرج في تهبيط دور مصر «التقليدية» أكثر وأكثر لمصلحة الدور الإيراني، وعقاباً للجيش والشعب المصري، لوقوفه ضد تلك الترتيبات.
إذاً، ما الحل لمقاومة هذا التخلي التام للدور الأميركي الذي كان وبحق ضامن أمني مهم في منطقة قلقة أمنياً وطائفياً طوال العقود الماضية؟
الحل هو في رجوع الدول العربية المتضررة بخاصة دول الخليج إلى احتضان شعوبها والمراهنة عليها لمواجهة ترتيبات أميركا الجديدة، وبناء جيوش حقيقية تدافع عنها، إضافة إلى تشكيل جناح عروبي جديد يقاوم الشعوبية الفارسية والتركية، والرجعية والعمالة الإخوانية، وعمل ترتيبات مدنية وحضارية واقتصادية وأمنية سريعة، تحافظ على تلك الدول من الإفراط والدخول في مجهول لا يعلم نهايته إلا الله.
نقلا عن الحياة اللندنية
