أعتقد أن طريقة مصلحة الزكاة والدخل في التعامل مع موضوع الزكاة تحتاج إلى إعادة نظر، المصلحة بكاملها تحتاج إلى إعادة هيكلة كاملة، ليست المشكلة في مصلحة الزكاة موضوع استقلالها عن وزارة المالية أو عدمه بل المشكلة في معاملة "الزكاة" نفسها، المشكلة التي نعانيها منذ عقود هي معاملة موضوع الزكاة كالضريبة، أي من جانبها النظامي والإلزامي وليس من جانبها الشرعي، معاملتها ماليا وليست كركن من أركان الإسلام لا يصح إسلام الإنسان إلا به، فالمصلحة تنظر إلى المال فقط ولا تهتم بقضايا أخرى أشد أهمية وهو "المسلم" الذي يملك نصابا، وهذا الإصرار على معاملة الزكاة من جانبها النظامي حولها "في نظري" إلى "مغرم"، وليس حقا في المال لأصحاب المصارف الثمانية، وهذا بدوره أوجد مشكلات لا تعد ولا تحصى، وقصصا مؤلمة من الواقع، حتى أصبح من يدفعها يدفعها "كغرامة" من أجل إنجاز معاملاته المعلقة "يدفعها حتى ولو لم يكن مكلفا بها شرعا"، بل حتى موظفي الزكاة لم يعد همهم التأكد من "التكليف"، بل ليس هذا من شأنهم ابتداء، وأصبح استكمال الأوراق في الملف هو محور النقاش، ولو أقسم المكلف لهم بالله العظيم أن هذا السجل التجاري أو الترخيص مغلق منذ الحرب العالمية الثانية لن ينفعه ذلك شيئا، "هناك سجل وتريد إغلاقه أو تجديده، إذاً ادفعْ، هذه هي لغة الحوار" هكذا أصبحت كالغرامة.
المسلم مسؤول "شخصيا كمسلم" عن دفع الزكاة إلى المصلحة "التي تمثل الدولة، وهي المؤسسة الجابية لهذا الحق حتى يصل إلى أهله"، لكن المسلم الذي عليه حق الزكاة هو المسؤول عنها أمام ربه، وليس موظف المصلحة، لذلك يجب على موظفي المصلحة التعامل مع دافعي الزكاة بهذه الروح، إذا جاء من يدفع الزكاة يتم أخذها منه كما صرح بها وأقر بها بلا تحقيق ولا شك ولا مساءلة، ويتم الدعاء له بالبركة والنماء، بل حتى إذا تم تحويلها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية من المفترض أن تقوم المصلحة بإخطار المكلفين بذلك، وأن أموالهم قد تم إيصالها إلى مستحقيها، وأنهم قد برأت ذمتهم منها، وفي اعتقادي أن بناء جسور من الثقة، هو الذي سينمي أموال الزكاة وليس الإجبار وتحويلها إلى مغرم.
فالتداخل الذي حصل بين الوجه القانوني والوجه الشرعي للزكاة جعل المصلحة تربط موضوع الزكاة بقضايا أخرى لا علاقة لها به، مثل تجديد أو إقفال السجل التجاري، الدخول في المناقصات، صرف المستحقات. وهذا هو الذي حول موضوع الزكاة من قضية عقيدة، وجنة ونار، إلى قضية قانونية بحت يهدف من يتقدم إلى المصلحة إنجاز معاملاته وليس إبراء ذمته وإرضاء ربه، وهذا في نظري خلل خطير جدا يجب أن يعالج. وهو الذي جعل الناس يذهبون بزكاة أموالهم إلى مؤسسات أخرى عدة بعضها غير مصرح به، ذلك أنه يعتقد بدفعها لهذه المؤسسات أنه يبرئ الذمة، بينما دفعها لمصلحة الزكاة مصروف من ضمن أعماله ولإنجاز معاملاته، فلماذا هذا الخلل ونحن نمتلك هذه المؤسسة الضخمة بكل ما تمنحه الدولة لها من ثقة وثقل. ولهذا لا بد أن يتم استقلال موضوع الزكاة في مصلحة أو هيئة مستقلة تماما، حيث تركز على عملها الأساس وهو فقط جباية الزكاة من المكلف بها، دون أن ترتبط بأي طرف ثالث.
سيقول قائل إن الزكاة ستنخفض كثيرا، وسأرد عليه، بـ "لماذا؟". وهل ضعف الإسلام في الناس إلى هذا الحد وهل الناس التي تدفع الزكاة اليوم في كل اتجاه يدفعونها خوفا ورهبا من المعاملات التي سيتم تعليقها. بالتأكيد لا، ذلك أنهم يعرفون مدى خطر الزكاة على دينهم ودنياهم، وأنها إنما تدفع لوجه الله وحده، إما هكذا وإما لا. ولهذا قرنها الله في كتابه العزيز بالصلاة، حتى أن عيسى عليه السلام ذكرها في مهده، وللرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا مواعظ وقصص. إذا كانت الناس تدفع الزكاة رهبا فقط، فنحن أمام مشكلة يجب حلها من هذا الجانب، ويجب أن تتعاون مصلحة الزكاة مع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذلك أن عدم دفعها منكر يجب مدافعته. وهنا لا تناقض في كلامي.
فالمصلحة يجب أن تأخذ الزكاة من المكلف بها كما أقر لهم بها، ويمكن أن تتم بعض المراجعات للإعلانات الفقهية في كيفية حسابها إذا لزم الأمر، ويكفي المصلحة تقرير مراجع الحسابات الذي احتسب الزكاة للشركة والمؤسسة، ولعل المصلحة تطور نموذجا لاعتماد المكاتب التي يمكن الوثوق بخبراتها. فلا داعي إذا لكثرة تعقيد الإجراءات في هذا الشأن طالما المكلف حريص بنفسه على أدائها ولن تكون المصلحة أحرص من الإنسان على نفسه إذا علم أنها عبادة وأن الله توعد من منعها بالعقاب الشديد.
إذاً انتهى موظفو المصلحة من هدر أوقاتهم في فحص أوراق المكلفين والبحث في خفاياهم، وسيكون لديهم وقت كافٍ ومساحة أكبر لمتابعة كيف تصرف أموال المكلفين، وهل وصلت إلى مستحقيها، وإبلاغ المكلف برسائل خاصة بذلك، وسيكون لديهم وقت لتحليل البيانات وتقديم معلومات أكبر وأكثر تفصيلا، ثم سيكون لديهم فرصة من خلال كل المعلومات التي تم جمعها للبحث عن المكلفين الذين لم يتقدموا بدفع الزكاة للمصلحة نهائيا، وهذا هو جوهر الدور الذي يجب أن يناط بالمصلحة، وهذا هو الذي يمنحهم حق العاملين عليها، فهم يبحثون عن الذين منعوا هذا الحق من أساسه، فيقومون بزيارتهم وترغيبهم في ذلك، ويكون بالتعاون مع هيئة المعروف، والنظر في من منعها وأسباب ذلك، وإذا لزم الأمر إقامة دعوة ضده، حتى يذعن لأمر الله، فإذا سددها تؤخذ منه كما صرح بها لا كما فرضتها عليه المصلحة، لأنه هو المحاسب في هذا الأمر، وهو الذي سيقف بين يدي الله ليسأله عن ماله فيم أنفقه، والله أعلم.
نقلا عن الاقتصادية