واستعرضت الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبر موقعها عدداً من المسائل الاجتماعية... مبيّنة أن كشف المرأة وجهها «معصية»، وأن الخلاف في هذه المسألة لا يدخل في باب «ترك الإنكار»، لكون ضرر الكشف لا يختص بالمرأة وحدها، وإنما يصل إلى غيرها لأن ذلك «فتنة»، محذّرين في الوقت ذاته أعضاءها من الوقوع في الفتنة عند حديثهم مع المرأة الكاشفة وجهها. ولم تكتفِ الهيئة بالحديث عن كشف المرأة وجهها من عدمه، وإنما تناولت أيضاً ما يخص المواقع التاريخية والآثار الإسلامية، معتبرةً أن زيارتها «محرّمة»، مستدلة - في عرضها - بأنه «لم يسبق لأحد من الصحابة القيام بهذا الفعل». في حين نوّهت بأن العمل في مجال السياحة «محرّم»، مؤكدة أن ما يُكسب من مال عبره يعدّ مالاً محرماً».
ما هو مقتبس أعلاه تم نشره في هذه الصحيفة يوم الخميس الماضي.
وفي وقت سابق نشرت وسائل الإعلام خبر توقيع اتفاق بين هيئة السياحة وهيئة الأمر بالمعروف. تناولت التغطية ترحيب رئيس هيئة الأمر بالمعروف بهذا الاتفاق عندما صرح قائلاً: «تعاون هيئة الأمر بالمعروف مع هيئة السياحة في إنجاح السياحة المحلية وتعرف المواطنين على بلدهم واستمتاعهم به من خلال الرحلات السياحية هو من المعروف الذي تعمل الهيئة عليه وتتواصى به»، وأضاف: «إن ما تقوم به هيئة السياحة من العمل على ربط المواطنين ببلدهم ومحبتهم له يعد واجباً شرعياً قبل أن يكون واجباً وطنياً واقتصادياً».
كما تلاحظون، تناقض صريح بين ما يحويه موقع الهيئة وبين ما يصرح به رئيسها. الحقيقة أن مشكلتنا مع الهيئة هي الممارسات على الأرض، وهذه في الغالب الأعم دائماً تختلف عن مثل هذه التصريحات المشجعة.
في زيارة لي إلى سوق البجيري في الدرعية القديمة قبل بضعة أيام، شاهدت رجال الهيئة وهم يوقفون فتيات سعوديات ويطالبونهن بتغطية الوجه، على رغم وجود نساء عربيات لم يغطين وجوههن ولم يعترض على ذلك أحد من الهيئة.
واضح أن رجل الهيئة وبقدر افتتانه هو بما يراه يحكم ويقدِّر، هل ما يشاهده فتنة أم لا؟ ويتصرف. هنا تكمن المشكلة برأيي، لاسيما عندما يكون هذا العضو قد أتى للتو من مدينة صغيرة منغلقة، لا يوجد بها أي فعاليات سياحية، ولم يتم إخضاعه لأي تحضير نفسي واجتماعي للعيش في مدينة كبرى كالرياض بتنوعاتها وفعالياتها.
وكلام رئيس الهيئة مشجع أيضاً من ناحية تناوله للسياحة كرافد اقتصادي ومصدر جديد للدخل وخلق الوظائف. هذه هي المرة الأولى التي أسمع رئيساً للهيئة يتحدث بهذا الوضوح عن أهمية السياحة اقتصادياً. على أن هذه الرؤية تتطلب انتقالاً مدروساً نحو مرحلة التطبيق على الأرض. الهيئة - ومع بالغ الأسف - لم تترك لنا الكثير من الذكريات الجميلة في ما يتعلق بتدخلاتها في قطاع السياحة. معرض الكتاب على سبيل المثال، وهو نشاط رائع ضمن سياحة المؤتمرات والمعارض كان وإلى وقت قريب عرضة لتدخل المحتسبين، سواءً من أفراد الهيئة - وإن كان ذلك قد تقلص كثيراً أخيراً - أم من خارج الجهاز.
مهرجان الجنادرية العظيم وهو من أهم الأنشطة السياحية في المملكة أيضاً لم يسلم من تدخلات الهيئة والشواهد كثيرة في كل عام. لعلنا نلاحظ ولهذه الأسباب وجود الرعاية الملكية الكريمة لهاتين الفعاليتين. فمعرض الكتاب والجنادرية يقامان تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين، وسبب ذلك بالدرجة الأولى حمايتهما من متلازمة الاحتساب والتنبيش عن المنكرات، لكن هل يعني ذلك أن نضطر في كل وقت إلى الطلب من خادم الحرمين الشريفين رعاية أي نشاط، حتى لو كانت بطولة تنس دولية أو مسرحية هادفة؟ طبعاً لا.
يقول لي أحد الأصدقاء تعليقاً على مخاطبة رجل الهيئة للفتيات في سوق البجيري، إنه لم يشاهد أي تدخل عندما ذهب إلى السوق مع عائلته، ولا يجب أن نقيس الأمر بوجود حالة أو حالتين. قلت له يا عزيزي وهذه هي المشكلة، إذ إن الحالة أصبحت تعتمد على مزاج الموظف، بمعنى غياب المنكر أصلاً في مكان عام ومحترم كهذا واختلاقه من وقت لآخر. قلت له يجب ألا نقلل من مواضيع التدخلات في حريات الآخرين، وما حدث في دبي قبل أسبوع عندما دخلت مواطنة إماراتية في جدل مع سائحة مصرية وقامت بتصوير ذلك ونشره، وكيف سارعت الحكومة هناك إلى تخطئة هذه المواطنة والاعتذار من السائحة. وعلى رغم أن تلك الفتاة الإماراتية تعتبر «محتسبة» ولا تتبع إلى جهاز حكومي، إلا أن الأثر والضرر واحد وهو التسبب في المضايقات وتعكير الأجواء الآمنة.
مع كامل احترامي لرئيس الهيئة ولكل من يدافع عنها، إلا أنه وبعد ما يقرب من نصف قرن من العثرات والأخطاء وتكرار الحالات الارتجالية، مع وجود بعض الحسنات بالطبع، لكن الأخطاء أخطر بكثير.
أقول لا يوجد برأيي حل مع جهاز الهيئة بشكله الحالي وحماسة بعض منسوبيه إلا بضمه للجهاز الأمني في وزارة الداخلية، وإخضاع منسوبيه للتدريب والنظام. لم يعد هناك أي مبرر لاستقلال هذا الجهاز مهما تعدد الرؤساء. لكن قبل ذلك لا بد من وضع القوانين واللوائح الخاصة بالآداب والتحرشات. لو نفعل ذلك ونطبقه بتصميم وصرامة لا تهاون فيها فسنكتشف مستوى الشعور بالطمأنينة لدى التجار، ونلحظ تدفق البلايين على هذا القطاع، وسنستشعر واقعاً وبالأرقام كم هي السياحة مهمة ورافد خطير من روافد تنوع الدخل. لو نفعل، فسينعكس هذا النشاط السياحي اللائق بمكانة وسمعة وسعة المملكة على النقل الجوي والمطارات وقطاع الضيافة ومبيعات التجزئة وخدمات الصيانة والصحة، وخلق الوظائف اللائقة وانتعاش مدننا الصغيرة بما يؤدي إلى توزيع للثروة أكثر ملاءمة لجغرافيا المملكة وديموغرافيتها.
هذه حقيقة وليست آمالاً، فالعائق الوحيد أمام ضخ الاستثمارات الضخمة في قطاع السياحة في المصائف السعودية الخلابة، وأمام فتح البلاد لاستضافة المناسبات الكبيرة بواسطة القطاع الخاص وما يتبع ذلك من خدمات مساندة؛ هو الخوف من الهيئة عندما تتدخل في المشروع بعد تشغيله، إما بسبب متلازمة الاختلاط أو بسبب الزحام، على رغم وجود أطقم أمنية بعقود واضحة.
الأسوأ من ذلك صمت الدولة، بل ووقوفها أحياناً مع الهيئة من دون أي اعتبار للأضرار التي تلحق برؤوس الأموال، على رغم تفاهة المسببات.
لهذا علينا أن ندرك أن البيئة الملائمة للاستثمار في قطاع السياحة والترفيه تحت هذه الممارسات غير متوافرة بعد في بلادنا. هذا ما يجب علينا استيعابه والعمل على تغييره وقلب صورته بأسرع وقت ممكن.
إضافة إلى كل ما ذكرته هنا وبعيداً عن السياحة، فتجاوز بعض أفراد الهيئة ومخالفاتهم لتعليمات قادتهم وتوجهات ولي الأمر، التي تحفظ الكرامة للمواطن والمقيم، هي الأخرى منغصة ومثيرة للقلق مع تكرر بعض الأحداث التافهة. ولا أبالغ إذا قلت إن مثل هذه التصرفات لا يمكن وصفها بالحضارية ولا تأخذ صبغة إسلامية متسامحة ومتصالحة ولا تمت للإنسانية على الإطلاق. هذا أحد أسباب تزاحم الناس على السفر إلى الخارج بشكل لافت ومضر لدورة رأس المال الداخلية. المؤسف أن كل ما يقع من تجاوزات تم استعراض أضرارها يتم نسبه إلى ديننا الحنيف، عبر تبريرات واهية لا تستند إلى أي علم شرعي معتبر.
نقلا عن الحياة اللندنية