في الوقت الذي نؤمن فيه جميعاً بقضاء الله وقدره، وأن الإنسان لا يموت إلا بعد استيفاء المدة التي ضربها الله له، وفقاً لقولة تعالى (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً ..) الآية، فإننا نقدم العزاء لخادم الحرمين، وولي عهده، وذوي الشهداء كافة، وأنفسنا، في ضحايا حادثة التدافع بمشعر منى يوم الخميس الماضي، التي نتطلع في إطار توجيهه الكريم حفظه الله بشأنها، للجهات المعنية، بمراجعة الخطط المعمول بها في موسم الحج، ما ييسر على المسلمين كافة أداء شعيرة الحج عاماً بعد آخر.
إن مشعر منى، الذي شهدت إحدى سبله تلك الحادثة المؤلمة للتدافع بين الحجاج، تمثل كثافة الإشغال ضمن نطاق حدوده الشرعية، بالاستخدامات التي يحتاجها ضيوف الرحمن، لأداء نسكهم في هذا المشعر تحدياً أزليا، تتنامى صعوبته موسماً بعد آخر، لاسيما في العقود الأخيرة من السنوات، في ظل تزايد أعداد الحجاج من المسلمين، فمشعر منى هو أقل المشاعر المقدسة من حيث المساحة، مقارنة بمشعري عرفة ومزدلفة كما أن المساحة المتاح استغلالها فعلياً من هذا المشعر لا تمثل سوى (53%) فقط من إجمالي مساحته البالغة نحو (6) كم2، وذلك وفق تقديرات معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج، حيث إن النسبة المتبقية منها (47%) تمثل مناطق وعرة، تشكلها الجبال المحيطة بهذا الوادي التي يبلغ متوسط ارتفاعها (500م) من مستوى مجراه، وهذه المساحة المتاح استغلالها من أراضي منى، المتمثلة في بطن واديه، والقليلة نسبياً، لا تجعل المشكلة تنحصر فقط في محدودية هذه المساحة لإسكان الحجاج، وإنما في ضرورة أن تقتطع منها أيضاً، كل من شبكة النقل، ومباني المرافق والخدمات العامة، ومواقع المؤسسات الحكومية ذات العلاقة بتنظيم شعائر الحج، الأمر الذي يجعل الطاقة الاستيعابية الحالية لمشعر منى بكافة استخداماته السكنية وخلافها بالكاد تصل إلى (1.4) مليون حاج، ليصبح نصيب الحاج الواحد من هذه المساحة (2.2) متر مربع فقط..! وهي حصة ضئيلة جداً، تزيد من معدل التزاحم إلى درجة كبيرة في هذا المشعر الحرام وتجعل ما من بديل أمام المنظمين لشؤون الحج، سوى إسكان بقية الحجاج الذين قد تبلغ نسبتهم حالياً (50%) من إجمالي الحجاج، وجعل مبيتهم الشرعي في منى، خارج حدود هذا المشعر، ولنا أن نتصور، كيف أن حيزاً محدوداً من مكة المكرمة، لا تتجاوز نسبته (4%) من إجمالي مساحتها، تتقاطر للسكن والمبيت فيه، وعلى مدى لا يقل عن ثلاثة أيام، ومن كافة أقطار العالم الإسلامي، المتنوع في لغات وثقافات شعوبه أعداداً من البشر تعادل ضعف سكان هذه المدينة المقدسة..
التحدي الآخر، هو الخلاف الفقهي بين العلماء في البناء بمشعر منى، بين المنع المطلق للبناء فيه من قبل بعض الفقهاء، والسماح المطلق وفق رأي علماء آخرين، وقصر المنع في البناء على أرض منى والسماح به على سفوح جبالها في رأي فقهي آخر، وذلك أمام حاجة ملحة وحتمية لإقامة مبان بمستويات متعددة في مشعر منى تمكن كافة الحجاج من أداء أحد واجبات الحج وهو المبيت في منى أيام التشريق، وتوزيع كثافة الإشغال المتزايد لغرض السكن وخلافة على المستويات المتعددة لتلك المباني بما يضمن انسيابية الحركة ويحقق تفويجا آمنا للحشود من الحجاج على نحو ما هو حاصل في منشأة الجمرات.
إنه تحد حقيقي بلا شك، لكنه قدر المملكة التي تتشرف دائماً بأن تضم بين ثراها أقدس بقاع الأرض إلا أن أزلية هذا التحدي هي من سيتصدى لها أبناؤها، الذين ورثوا خدمة البيتين كابرا عن كابر، واعتزوا برعاية ضيوف الرحمن، وصاغوا تاريخ تطور خدمات المشاعر المقدسة جيلاً بعد جيل.
نقلا عن الرياض