سعدت جداً، كما سعد الكثيرون بالشفافية التي بدأتها وزارة المالية منذ العام الماضي؛ بالإعلان دوريّاً عن وضع ميزانية المملكة، ومدىالتقدم المُتَحَقَّق في مختلف البنود، سواء من حيث الإيرادات أو المصروفات الحكومية. إضافة الى توضيح الكثير من المؤشرات الاقتصاديةالعامة، مثل الدين العام، ومعدلات نمو الاقتصاد بصورة شاملة، أو النمو حسب القطاعات، والتأثيرات المالية للإصلاحات الاقتصاديةالمتبعة. واستمرَّتْ وزارة المالية في اتِّباع النّهجِ نفسه هذا العام، فجاءتْ إجابتُها على مختلف الأسئلة، قدر المستطاع.
وقد أُضيفَ إلى شرح ميزانية هذا العام، جلساتٌ وزارية، ساهمت في إضفاء مزيد من التوضيح والشفافية على الأداء الحكومي في ظلتطبيق رؤية (2030).
وجاءت هذه الجلسات في أغلبها جيدة، أجبرت الغالبية منَّا على المكوث أمام التليفزيون، أوْ في قاعة هذه الجلسات، وكانت على هيئة «جردحساب» لكل وزير عما قامت به الوزارة المسؤول عنها خلال العام المنصرم، وما ستقوم به خلال العام المالي القادم. وبالرغم من الدعوةالشخصية التي تلقيتها لحضور هذه الجلسات الوزارية، إلا أن وعكة البرد التي أصابتني منعتني من المشاركة، فاستعضتُ بها بملازمةالتليفزيون طوال مدة الجلسات.
ويمكن تلخيص أهم الملاحظات على محتوى هذه الجلسات في النقاط التالية:
أولا: بالغتْ بعض إجابات الوزراء في وصف الزيادات في حجم الإيرادات غير النفطية إلى إجمالي الإيرادات، حيث وصفتها بالوصول إلىمستويات التنويع الاقتصادي، -وهو الهدف الذي تسعى رؤية (2030) إلى تحقيقه-، وذلك بالطبع ما نتمناه جميعاً، لكنْ لابدَّ من الإقرار بأنَّاقتصادنا السعودي -وبالرغم من زيادة هذه الإيرادات غير النفطية- لا يزال معتمداً وسيظل كذلك لسنوات عديدة، حتى نطمئنَّ بأنَّنا قد فصمناالعلاقة الوثيقة بين إيراداتنا من تصدير النفط الخام، ونُمُوِّنا الاقتصادي، وهذا لم يتحقق بعد.
ثانيا: لم يُجبْ بعضُ الوزراء على سؤال جوهري طرحه أحدُ مُمثِّلي القطاع الخاص حول ما يُشاهد من طموحات وزارية وبرامج جدية، ومايُرى في الشارع العام من هدوءٍ اقتصادي؛ نتيجة لتقليص الإنفاق الحكومي، ومن ضعفٍ في القدرة الشرائية نتيجةَ ارتفاعِ مستوى المعيشة،وارتفاعِ أسعارِ السلع والخدمات، وعدمِ انعكاسِ انخفاضِ الأسعارِ العالمية في أسواقنا المحلية، ناهيك عن عبءِ بعض الرسوم التي فُرضتْمؤخراً، بالرغم من محاولات الدولة للتقليل من هذا العبء عن طريق «حساب المواطن» وغيره.
وكان الأولى بالوزراء المعنيين تبِيانَ طبيعةِ المرحلة الانتقالية التي نعيشها في ظل تطبيق رؤية (2030)، وأنه لا يمكن للنتائجِ أنْ تظهر علىالفور، فليسَ هنالك عصا سحرية تقودُ الوضعَ الاقتصادي نحو الأفضل، بين يوم وليلة. وتجاربُ الدول الأخرى التي مرَّت بالمسارِ نفسه،تُبيِّنُ أنَّ التضامنَ مع الحكومة وأداءنا لأدوارنا المطلوبة، والصبرَ على هذه الفترة الانتقالية، تُؤدي إلى ظهورٍ تدريجيٍّ للنتائج المرجوة خلالالعقد القادم (2020) وما بعده.
ثالثا: استخدم نفر من الوزراء أسلوب «التنظير»، وتكلم عن المستقبل أكثر من حديثه عن الوضع الحالي. حقّاً نحن بحاجة إلى التفاؤل، ولابديل لنا عن التفاؤل، إلا أنَّ كثرة التفاؤل، و«التخييلي» منه على وجه الخصوص، يُفقد المصداقية. وجدنا البعض يتحدث عن حجم التوظيفالهائل للسعوديين بنهاية (2030)، وعن أنَّ حجم الاحتياطيات من مواردنا الطبيعية والمعدنية ستصل إلى عشرات التريليونات من الريالات،وغير ذلك من أمور تُضفي التخييلية على الرؤية ولا تخدمها.
رابعاً: أعجبتُ، بصورةٍ خاصَّة، بمداخلات كلٍّ من وزراء المالية، الاقتصاد والتخطيط، والإسكان والصحة والنقل والاتصالات؛ لأسلوبِهمالتحليليِّ الواقعي، ولاستخدامهم الأرقام غير التنظيرية، ومناقشتهم للأسئلة التي تُطرح دائماً، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وعدمالهروب منها. وكنتُ أتمنَّى لو اكتفى الوزراءُ بإجابة وزير المالية حول عدم رفع أسعار الطاقة العام القادم، عدا مراجعة طفيفة للبنزين. وكانبودي مناقشة كيفية كَبْح جماحِ الدين العام الذي يتزايد عاماً بعد آخر، والدين الخارجي على وجه الخصوص، على الرغم من استمرارانخفاض نسبة الدين العام الإجمالي إلى الناتج المحلي، وقد وصلت إلى حوالى (١٨٪).
خامسا: كنتُ أتمنَّى مشاركة الرئيس التنفيذي لصندوق الاستثمارات العامة، في هذه الجلسات الوزارية؛ إذْ إنَّ دورَه محوريٌّ في كلالنقاشات. فالصندوق هو الذراع الأساسي لرؤية (2030)، وهو الشريك القادم لأغلب مشروعات القطاع الخاص، كما أنَّه الشريك لكثير منالشركات العالمية التي استثمر فيها الصندوق، فكان بإمكانه تبيان مسيرة الصندوق، واختياراته الاستثمارية الدولية، ومناقشة تَحَفُّظِ البعضِتِجاهَ بعض اختياراته.
والصندوقُ جزءٌ مهم من الشفافية المطلوبة، خاصة في ظل إعادة هيكلته مؤخراً، واستقطاب كفاءات محلية ودولية فيه؛ ولابدَّ من طمأنةالمواطنين بأن قرارات الصندوق تُتَّخذُ وفْقَ معاييرَ موضوعيةٍ، دولية ومحلية، وأنَّه ماضٍ في دعم القطاع الخاص السعودي، وفْقَ ما هومخططٌ له، وأنَّه من خلال شراكاته الدولية، يستطيع في مجالس إداراتها التي يحتل مقعداً فيها، أن يستقطبَ استثماراتٍ أجنبية تساعد فيإنعاش وتعدد المشروعات المحلية.
وختاماً، فبالرغم من الملاحظات الواردة على الجلسات الوزارية المنعقدة تزامناً مع إعلان الميزانية السعودية، إلا أنَّها خطوة ذات فائدةكبيرة، ومن الضّروريِّ استمرارها طوال الفترة القادمة حتى نهاية فترة رؤية (2030)؛ فنحن -بإذن الله وتوفيقه- أمامَ مستقبل واعِدٍلاقتصادنا السعوديِّ، ونتجه بخطوات واثقة نحو تحقيق التنوع المطلوب، والاستدامة المثلى لاقتصاد المملكة.
* المستشار الاقتصادي والنفطي الدولي
مرسل للوكاد من الكاتب