عندما وصلت إلى بريدة، قضيت أول ليلة فيها، كان الوقت في بدايات الشتاء، والقصيم عموما منطقة بردها شديد، وجوها صعب، لكن من مشقة يوم السفر نمت دون أن أشعر، واستيقظت لصلاة الفجر، وصلَّيت في مسجد مجاور، كنت قد عرفته من زيارة سابقة، وفيه أحداث ستأتي بحول الله.
عدّت من صلاة الفجر صباح السبت، أُفكر في ترتيب بعض الأمور قبل البدء في الدراسة يوم الأحد، وتناولت هاتفي المحمول، واستعرضت حالاتٍ ورسائلَ، فوجدت زوجتي (أم سعد جزاها الله عني وعن والديّ وأولادي خير ما يُجازي به عباده الصالحين) قد وضعت في حالتها، صورةَ طائرةٍ، وملامحَ طيران، ووضعت عليها بيتا من الشعر، من قوة وقعه، وأثره عليَّ ما زلت أحفظه، وأردده:
أنا صحت من الفرقا وعزّ الله إنها جات ويا سعد عين ما تفارق حبايبها
كنت واقفا فجلست، قرأت وقرأت وقرأت، ثم لاح في مخيلتي (أبي وأمي) يا الله، أبي -رحمه الله- (كان حيّا حينها) الذي عرفته لا يُحب أن يُفارق أحدا من أبنائه، نعم أبناؤه الذين هم عنده كلُّ شيء، وأمي التي ربما تكون في تلك الأيام في أمس الحاجة لنا، هم في حاجة لنا بعد أن نأت بهم الديار في صغرنا، يكدّون ويتعبون، وما كنا نراهم إلا قليلا.
هذه الحالة التي كانت في (الواتس آب) ذكرتني عائلتي الصغيرة، أكبرهم في المرحلة المتوسطة، ومنهم صغار في مراحل الدراسة المبكرة، وبيني وبينهم أميال ومسافات، لم أخف عليهم من شيء، ولكن ما ذنبهم في هذه الفترة! وأي جريرة وقعت فيها بهذا القرار الذي اتخذته في هذا الوقت!
(أم سعد) كتبت هذه الكلمات لأنها تعرف ما معنى غياب الأب، عرفت أن الحِملَ أصعب من أن تحمله أكتاف امرأة عاشت فترة طويلة تحت أبٍ حانٍ -رحمه الله- وزوجٍ كان مقبولا في كثير من أموره، الله كم شعرتُ بالمرارة والحزن على ما آلت إليه الأمور في تلك اللحظة.
أعرف أن غيري كثير، وأن معاناة ملايين البشر أصعب من معاناتي، لكن ربما أن الظروف هي التي أجبرتهم، أما أنا فأنانيٌ أحبَّ نفسه، فضحّى بكل من حوله، لم يراعِ أبا ولا أُمَّا، ولا زوجة ولا ذُرية، وكأن الدنيا له وحده، والحياة يجب أن تسير كما يُريد، لا بد أن يَخضعَ كلُّ من حوله لرغباته، وتستجيب الأقدارُ لطموحاته.
عرفت أن أحسن قرار اتخذته هو خروجي للسفر قبل الفجر، نعم أحسنت أني لم أودعهم، لم أُسلِّم عليهم، كيف أُسلِّم على (بدر وعمره لم يصل ثلاث سنوات)! من يُخلِّصه من يديَّ إذا احتضنته، ومن يخلِّصني منه! وكيف أترك (سعد سبع سنوات) يتحمل همَّ أُسرة كاملة! كيف أحملُ عبء أُسرته من على كتفي، وأُلقي به على كتفه الصغير، نعم الحمد لله أني ما رأيتهم، ولا توادعت منهم.
بدون تردد أو تفكير أرسلت رسالة لزوجتي (أم سعد) لماذا كتبتي؟ لماذا هذه الحالة؟ أنا سأرجع، لا يمكن أن أبقى، من يقوم عليكم؟ من يرعاكم بعدي؟ لقد أخطأت، ولا بد أن أُصحح هذا الخطأ.
ردَّت عليّ كعادتها -بقلبها الكبير، وشعورها الواثق- (ما علينا خلاف، لا أشوفك إلا والشهادة معك، إذا جات الشهادة، نسينا كلّ شيء) ولا زالت مُصرَّةً على الاستمرار، وأن الأيام تُطوى، والغربة ستنتهي، وأن الأثر سيبقى، وصدقت والله، انتهى كلّ شيء، وبقيت هي صاحبة الأيادي البيضاء، والمواقف المشرفة.
انتهى الحوار بيننا على أن يقوم كلٌّ بمسؤولياته التي قُدِّرت له، وأن تتكاتف الجهود في تحقيق حُلم العائلة، وأن نحتفل في يوم ما بنجاح خطوناه معا خطوة خطوة، وكتبناه معا حرفا حرفا، وذُقنا مرارة أوله، وحلاوة آخره، فكان ذلك الاتفاق دستور حياة، سِرنا عليه، وسار بنا حتى تحقق الهدف، والحمد لله أولا وآخرا.
عنوان المقال القادم من هكذا علمونا الجَلَدَ والبحثَ الرصين: (يُعانقونه ويُعانقهم).