المشروع الثقافي الوطني ليس كتاباً أدبياً أو فكرياً أو نصاً إبداعياً فقط .. إنه مهرجانات وندوات ومعارض ومحاضرات ومسرح وفنون ونشاطات متعددة، ومراكز ثقافية وجوائز تقديرية وتنمية مهارات ورعاية مواهب ناشئة تشكّل في مجموعها ملامح مشروع ثقافي له أهدافه وبرامجه ومؤسساته.
هناك قضية غائبة أو تكاد تكون غائبة سواء على مستوى الوعي العام بأهميتها أو على مستوى وعي المؤسسات المعنية بالثقافة كمشروع تنموي لا مجرد نشاط تنخرط فيه مجموعات تحمل هذه الاهتمامات أو تدعو لها أو تشتغل عليها.
هذه القضية هي قضية "الثقافة العلمية" التي لم تأخذ نصيبها بعد، بل وتكمن في زاوية لا يراها سوى نوع من الاهتمامات الضيقة التي ربما لا تنشغل بها سوى القلة، ولا تدرك أبعاد دورها وتأثيرها الشريحة الواسعة من المجتمع، ناهيك عن المسؤولين عن قطاع الثقافة والإعلام.
وتظهر عدة جهود يمكن اعتبارها جزءاً من نشاط يتعلق بالثقافة العلمية في جانب أو آخر من قضايا لها صلة بحياة الناس اليومية. هناك جهود ولكنها ضعيفة ودون برامج واضحة وبعيدة عن وعي المؤسسات الثقافية والتعليمية. ومعظم تلك الجهود الضعيفة تتركز في مستشفيات وجمعيات قليلة ومراكز نادرة ومحدودة مثل مركز الأمير سلطان للعلوم والتقنية التابع لجامعة البترول والمعادن، وواحة الأمير سلمان للعلوم في الرياض ومركز جدة العلمي، وبعض المؤسسات القليلة والنادرة التي تتبنى جزءاً من هذه المهمة باعتبارها معنية بالعلوم لا بمسألة ثقافة يجب أن يروج لها جماهيريا.
أي مشروع ثقافي وطني لا ينظر للثقافة العلمية كجزء من هذا المشروع هو يتجاهل عنصرا مهما وفاعلا في التأثير الايجابي على تكوين المتلقي الثقافي، وفي المساهمة في تكوين مجتمع المعرفة الذي نتحدث كثيرا عنه ونعجز عن اكتشاف من أين تكون البداية في التأسيس لهذا المجتمع؟!
وإذ تستهدف الثقافة العلمية عقلا اجتماعيا قادرا على هضم مبادئ العلوم وأفكارها الأساسية ومنتجاتها، فهي أيضا تستهدف عقلا ينفذ إليه العلم باعتباره اليوم وسيلة حياة وتقدم ونماء، ومن ثم يُقدِّر تلك المعارف ويعرف قيمة منتجاتها، ولديه القدرة على التعامل معها ويدرك أيضا أخطارها، ويتفاعل مع قضاياها، ليصبح هذا العقل فيما بعد قادرا على تذوق العلم وتقدير أهميته، وهذا يدعم تكثيف العامل الاجتماعي الذي يركن للعلم باعتباره الوسيلة الأساسية للتقدم والنمو. إلا أنه من غير المطروق - إلا ما ندر- ذلك البعد الذي يرسخ الثقافة العلمية باعتبارها مشروعاً أوسع من اكتشاف منتج أو تعامل مع سلعة تقنية. إنها ذاك الذي يجعل من العلم منهج تفكير، ومن المنهج العلمي أداة ووسيلة للقبول والرفض في قضايا كثيرة تمس المجتمع.
إن الاهتمام بالثقافة العلمية كجزء من المشروع الثقافي الوطني مرتبط بالغاية الكبرى من نشر هذه الثقافة أو التأسيس لها في بنى اجتماعية مازالت حتى اليوم غير قادرة على استلهام هذه الثقافة كشرط للتنمية.
العلوم والتقنية بأبعادها التي تُستهدف في مشروع نهضة أو تطوير أو نمو أي مجتمع لا يمكن أن تضرب بجذورها في بلاد السواد الأعظم من مواطنيها لا يستوعب ما العلم أو ما التقنية؟ ولا يدرك أبعاد الدور الذي يؤديانه في المجتمع وأهميته، ومازال غير قادر على تمييز المضمون الحقيقي لهذه المفاهيم.
كما أن ما يدعو أيضا لضرورة فهم المواطنين أو الجمهور للعلوم والتقنية ليس بالمعنى الاصطلاحي ولكن بالمعنى الذي تتكون من خلاله اتجاهات مفهومية وسلوكية نحو منتجات العلوم والتقنيات المرتبطة بها، هي فكرة التنمية الاقتصادية، فالمعرفة التقنية والعلمية تسهمان في زيادة الإنتاج بحوالي 90% ، بينما تؤدي الزيادة في رأس المال إلى نمو الإنتاج بما يوازي 10% فقط.
كما أن نشر الثقافة العلمية يعول عليه في اتساع دائرة التفكير العلمي بين الجمهور وهو " التفكير الموضوعي المجرد الشامل القائم على الدليل والبرهان والمنطق السليم " وهذا يدفع حتما لطرد ثقافة ضارة عنوانها رواج أساليب الدجل والشعوذة، وانتهاك العقل وإنهاكه في قضايا ليس لها علاقة لا بالعلم ولا بالعقل المؤسس على التفكير العلمي المنظم بل إن الانسياق خلفها مؤثر على فرصة نمو حقيقي ويناقض أي توجه نحو التقدم على رافعة العلوم. ولذا ليس من الغرابة أن تنتشر الشعوذة والخرافات لتصبح حديث الناس وجزءاً من دائرة اهتمامهم دون أن تجد سوى قلة تتجاوزها من خلال منظومة ذهنية قادرة على تحليل الظاهرة وكشف التباساتها.
كما أن الاهتمام بمشروع ثقافي يطال العلمي من شأنه أن يؤسس لذهنية علمية غير قابلة للاستلاب أو الانتهاك.. فهو يؤثر في عقل جيل بتوجهاته نحو تقدير هذه العلوم وربما كان عالمُ الغد من جيل بدأ يتفتح عقله على ثقافة تنمي هذا الاتجاه لديه وتعظم قيمته في تكوينه واهتمامه.
كما أن الاهتمام بهذا الفرع من الثقافة يعزز النظرة الايجابية العامة للعلماء والمبدعين والباحثين المميزين فيحظون بالتقدير والاهتمام. وهذا يرسخ في الوعي العام القيمة التي يحظى بها الحضور العلمي في عقل جيل، وهو ما يعول عليه في ظهور علماء وباحثين مميزين وقادة توجهات واتجاهات علمية تصنع نجوميتها بكفاءة الاستحقاق، لا أن تتوارى تلك الأسماء اللافتة القليلة بإنجازاتها العلمية في الظل، بينما يرسخ فقط في وعي جيل كامل أن النجومية والحضور قصر على فئة اجتماعية تطال حتى أنصاف الموهوبين منهم. وليس من الغرابة اليوم أن يعرف النشء عن عالم تلك النجوميات أكبر بكثير من معرفته بعلماء مبدعين ورواد استطاعوا أن يغيروا وجه العالم والتاريخ.
كما أن الاهتمام بهذه الثقافة من شأنه أن يساهم في تقليص الفجوة بين ثقافتين، وهذه المسألة حظيت باهتمام بالغ في الغرب منذ خمسينيات القرن الماضي، وهو توجه ينصب على تجسير المسافات بين العاملين في التخصصات العلمية التطبيقية والعلوم الإنسانية، وكذلك بين النشاط العلمي في مجال العلوم البحتة والتطبيقية وبين صانع القرار، وفي هذا المجال يقول العالم البريطاني تشارلز سنو أول من طرح فجوة الثقافتين في منتصف القرن الماضي: (من الخطر أن يكون لدينا ثقافتان لا يمكنهما الاتصال فيما بينهما، وفي الوقت الذي تقرر فيه العلوم الجزء الأكبر من مصيرنا، فإن الأمر خطير من الناحية العلمية أن يعطي العلماء نصيحة غير طيبة، بينما صانعو القرار لا يستطيعون أن يعرفوا إن كانت جيدة أم لا).
وقد تبلورَ في الدول الصناعية المتقدمة أو التي تشق طريقها نحو التقدم السريع إدراكٌ عميق بأن العلوم هي أيضا ( منظومة من النشاطات الثقافية ) تمثل تعبيرا لتوجه المجتمع نحو العلم، كما تعبر الفنون والآداب والتراث أيضا عن تلك المجتمعات... مما يعني عدم إمكانية فصل العلوم عن القضايا الأساسية في حياة المجتمعات.
هذه الثقافة يجب ألا تفصّل على الثقافة العامة، وهي جزء يجب الالتفاف إليه في أي مشروع ثقافي جاد يأخذ هذه القضية في الاعتبار، ويضع لها برامج مناسبة لمختلف فئات المجتمع من تلاميذ المدارس إلى الجمهور العام إلى المشتغلين بتخصصات أخرى ؛ حيث يمكن أن يجدوا في هذه البرامج ما يدعم مخزونهم الثقافي لمفاهيم هم بأمس الحاجة لها.
نقلا عن الرياض
- الشرطة تخلي مخيما مؤيدا للفلسطينيين في جامعة جنوب كاليفورنيا
- مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية يُنظم مؤتمرًا دوليًا في كوريا الجنوبية حول “تحديات وآفاق تعليم اللغة العربية وآدابها”
- السعودية تؤكد ضرورة إعادة هيكلة منظمة التعاون الإسلامي وتطويرها
- كشف جديد للغاز في حقل هديبة في الشارقة
- اكبر سجادة زهور تجذب زوار مهرجان الورد الطائفي
- “تقويم التعليم” تعتمد 3 مؤسسات تعليمية و42 برنامجاً أكاديمياً لنتائج شهر أبريل 2024م
- مجمع الفقه الإسلامي الدولي يثمّن بيان هيئة كبار العلماء في المملكة بشأن عدم جواز الحج دون تصريح
- مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية
- إبرام أول صفقة بين جامعة أميركية مرموقة وطلاب مؤيدين للفلسطينيين
- المعهد الوطني لأبحاث الصحة يطلق مبادرة أبحاث الأوبئة والتقنية الحيوية
ثقافة العلم … والمشروع الثقافي
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.alwakad.net/articles/48122.html