تظل مواجهة الفساد الاداري والمالي بفعالية المدخل الأهم لمعالجة اوضاع كثيرة ترتبط بمقومات الحياة والسعي نحو تحقيق الوفر وتمكين العدالة ومقاومة الاستئثار وحماية المجتمع ودعم منظومة اخلاقية وقيمية وحقوقية لتصبح ركنا شديدا في بناء الدولة والمجتمع..
منظومة التفاعل الاجتماعي مع بعض القرارات تقدم مؤشرات مهمة على نوع الاهتمام الشعبي ورؤيته لتلك القرارات.. وخاصة ما يتعلق منها بحياة واحتياجات ومتطلبات القطاع العريض من المواطنين.. إلا أن محدودية التواصل ونوعيته بين صناع القرار وبين المواطنين ظلت ضعيفة التأثير.. ولذا قد يكون نجاحها محدودا في تبديد القلق أو الدفاع عن قرارات كانت وفق المسؤول قرارات الضرورة.
لقد صار من الاهمية بمكان ان يكون للحكومة ومجالسها المتعددة، حضور إعلامي أوسع واقوى، خاصة مع تلك القرارات التي تدور حولها الكثير من التساؤلات، والتي تمس حياة المواطن مباشرة او بطريقة غير مباشرة.. فلا شيء يعظم نمو الاشاعات والتفسيرات الخاطئة أكثر من التجاهل والصمت أو انتظار زمن قد يطول دون ان تكون تلك الحقائق واضحة جلية.
الظروف والتطورات وتسارع القرارات تتطلب صوتاً للمسؤولين يصل إلى المواطنين ويكشف ما التبس عليهم، كما يتطلب العديد من الفعاليات الاعلامية لمواجهة تلك التساؤلات التي اصبحت حقلا لرواج التخريجات التي قد تكون ضارة وتخلق المزيد من الغموض.
وللمراقب للتفاعل الاجتماعي المتعدد الوسائل، أن يرى ويسمع هاجس الشارع وترقبه.. وله ان يرصد العديد من الاسئلة حول كثير من القضايا التي تطال هذا المجتمع من قضايا سوء الإدارة أو الهدر أو التعطيل وغيرها من القضايا.. إلا انه يتوقف طويلا أمام الحلول الممكنة.. ناهيك عن البحث عن وسائل علاج تداعيات مزمنة بدت اليوم تتفاقم، وتراكماتها قد تزيد الأمر صعوبة.. كل هذا يقابله صوت خافت.. كان يجب ان يكون له الحضور الاكبر في تسليط الضوء على كل قرار وكشف ملابساته وضرورته في مرحلة تشهد العديد من التحديات الداخلية والخارجية.
وعندما توضع أكبر التحديات في الداخل في قائمة أولوية المواجهة، فسيكون الفساد هو الخطر الأكبر على مسار التنمية والاستقرار الاجتماعي وفعالية الانفاق الحكومي وعوائده.
ولقد جُربت على مدى سنوات العديد من الاجراءات، التي تخفف آثار المرض ولكنه لا تجتثه ولا تستأصل شأفته.. وقد يكون من غير الممكن هذا، إلا ان الممكن تحقيق خطوات جادة في ملاحقته واضعاف تأثيراته وجعله كلفة عالية على مقترفيه والمتورطين فيه.
ويأتي السؤال، هل معالجة الفساد بهيئة أو هيئات محدودة الصلاحيات.. أم أن العلاج يتطلب وسائل أخرى وادوات أخرى..
وقد نعود باستمرار لاستعادة حادثات او مقولات او تسريبات.. لتستهلك جزءا كبيرا منا تلك الدائرة المغلقة، وقد تصرفنا عن السؤال الاكثر اهمية.. وهو كيف يمكن أن نواجه مستقبلنا.. إذا بقيت تلك فقط هي كل الأدوات التي نهرع إليها عند الصدمة الاولى!!
ومن يرى اننا مجتمع غير واع او مدرك فهو ينظر من ثقب ضيق ومن زاوية يعظم عتمتها باستدعاءات هنا وهناك، ولكنه أيضا ينصرف عن شواهد النضج والتفاعل وارتفاع مستوى الوعي خلال العقدين الماضيين.. وهو أيضا بالتركيز على ملامح الخمول او التراجع او ذبول الوعي انما يحاول الانصراف عن مواجهة الحقائق بشجاعة ومسؤولية.
ان عقودا من التعليم والاتصال بالعالم الخارجي وتراكم الخبرات والتفاعل الاجتماعي.. لم تدع اليوم احدا بمعزل عن تلك التطورات. كما أن تعقد الحياة وزيادة التزاماتها، واعتماد القطاع العريض من المجتمع على دخل الوظيفة مع انحسار فرصها وعوائدها يجعلنا امام استحقاقات لابد من الوفاء بها في حدود الكفاية، ومواجهة تبعات تعثرها او تفاقم متطلباتها.. وصناعة البدائل المناسبة عوضا عنها.. فطبيعة هذه الاستحقاقات انها تراكمية وتترك اثاراً سريعة ومباشرة.. والتراخي في مواجهة تلك الاستحقاقات او ترحيلها قد يشكل ازمة بحد ذاته.. وقد تعجز عنها معالجات تالية اذا جاءت متأخرة.. وهذا جزء من طبيعة تطور الازمات والتراكمات التي لا تستقر على حال.
وليس أخطر على كيان من ضعف الداخل.. وليس أكثر فعالية في هذا الاضعاف من هدم الثقة او التركيز على ملامح الاخفاق.. وزراعة المخاوف واستدعاء الثقوب والشقوق.. في محاولة لزراعة اليأس والاحباط. ولذا تظل مواجهة الفساد الاداري والمالي بفعالية المدخل الأهم لمعالجة اوضاع كثيرة ترتبط بمقومات الحياة والسعي نحو تحقيق الوفر وتمكين العدالة ومقاومة الاستئثار وحماية المجتمع ودعم منظومة اخلاقية وقيمية وحقوقية لتصبح ركنا شديدا في بناء الدولة والمجتمع.
الفساد بكل أنواعه وتداعياته لا يمكن مواجهته بمؤسسات ضعيفة أو محدودة الصلاحيات..
الفساد ليس اختلاسا فقط.. إنه منظومة أوسع تطال انظمة وقضايا وحقوق.
ويأتي تعزيز الثقة بين الحكومة والمواطن أمر غاية الاهمية، والبحث في وسائل المشاركة في صناعة القرار والرقابة على الاداء..والخروج من الدوائر الضيقة..ليكرس تلقائيا المشاركة الأوسع في تحمُل المسؤولية، التي هي روح المواطنة وثمرتها.
نقلا عن الرياض