يبدأ الإنسان بانتمائه لوالديه ثم إخوته ثم تتسع دائرة قراباته وصلاته شيئا فشيئا في المحيط الاجتماعي الذي يحتضنه ثم لا تلبث علاقاته مع مرور الأيام أن تبتعد أطرافها بعضها عن بعض بعدا شديدا إلا أنها ترتبط بسلسلة طويلة الحلقات، وهذه السلسلة هي ما يعرف بالنسب، وقد كان العرب من أشد الأمم تمسكا به ومحافظة عليه واعتدادا به، ولم يعرفوا صلة أقوى منه حتى تكونت القبيلة الكبيرة على وهم رابطة النسب الأبوي. وجاء في معنى النسب واكتساب خصائص الآباء الأثر «الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»، وهذا القول ليس مفهوما عنصريا كما قد يفهم بعض الناس من ظاهره، وإنما هو مفهوم علمي وتقرير عرفته البشرية وأيده العلم الحديث فيما يعرف بالوراثة الجينية، أي إن الإنسان يرث خصائص والديه في التصرفات والسلوك والتفكير والنظر في الأمور التي تأتي بالوراثة جينيا. وللعرب مقولات كثيرة في إدراك هذا الأثر، منها القول المنسوب لعمر «ابتعدوا لا تضووا» والأطباء في الحاضر يضعون لهذا الأثر حيزا مهما فيما يتعرض له الإنسان من إرث جيني في كل خصائصه. وقد عرفت المجتمعات القديمة نوعين من الروابط والعلاقات المعتبرة.
النوع الأول روابط المكان الذي يولد الإنسان فيه ويعيش على أرضه كالقرى والمدن والأرياف التي تجمع الناس فينتسبون إليها، أما النوع الثاني فالانتماء إلى رابطة الدم أو النسب إلى الآباء والأجداد، وقد جاء في معنى الانتماءين قول عمر «لا تكونوا كنبط السواد إذا سئل الرجل عن نسبه قال من قرية كذا». والنسب بمعنى الرابطة والقرابة الأبوية كان هو السائد في الثقافة العربية القديمة ولم يعرف العرب غيره، ولهذا كونوا الاتحادات القبلية الضخمة وزعموا أنها تعود في
جذورها الأولى إلى صلب رجل واحد حتى مع وجود الروايات الصحيحة عن حدوث الأحلاف بين القبائل والانصهار بينها في أرومة عربية واحدة من أعراق شتى.
ولم تكسر هذه التقاليد البشرية السائدة المجمع عليها في الثقافة العربية خاصة إلا حين جاء القرآن وأشار إلى خيارات أخرى وبدائل ممكنة لانتماءات أعلى وأشمل من الأجداد، كالانتماء للشعوب والأمم، ففتح بذلك مجالا أوسع وعلاقات أسمى بالإضافة إلى ما كان مقبولا ومعترفا به من قبل، وقد مر الحال على هذا التقسيم قرونا طويلة وحقبا متتابعة حتى اكتشف الإنسان نفسه وفرديته وذاته وفكر باستقلال إرادته عن موقعه من الجماعة التي كان مندمجا فيها.
باكتشاف الإنسان نفسه اكتشف البديل المناسب لصلته بمن حوله وبأهمية ما يربطه بهم وهي الأرض التي خلق منها ويعيش عليها، واكتشف الانتماء الثابت والحقيقي للمواطنة بدل كل الانتماءات القديمة، وأصبح العالم كله يؤمن برابطة المواطنة ويقدسها على الأرض الواحدة ضمن أطر سياسية معتبرة جامعة، وأصبح ذلك هو النسب الأقوى والمعترف به عالميا، حيث تكون المساواة التامة بين كل المواطنين في البلد الواحد في الحقوق والواجبات، ومع ذلك فالمواطنة لا تلغي ما سواها من الوشائج والقرابات والصلات المعتبرة والالتزامات التي تؤسس على علاقات أقرب وأخص منها، وتبقى الثنائيات في حيزها المقبول، ولكن المواطنة والانتماء إليها ارتفعا بالبشر إلى الصفة الأسمى فوق كل الثنائيات المعتبرة في المجتمع. فانتسبوا للوطن وانتموا إليه، وكونوا أبناءه البررة به وإن غضب بعضكم من بعض واختلف بعضكم عن بعض
نقلا عن صحيفة مكة