تحولات عظيمة مرت على العالم في العقود الأخيرة، قفزت بها الأمم قفزات هائلة إلى الأمام في كل الاتجاهات في الطب وفي المواصلات وفي الاختراعات وفي التعاملات وفي كل شؤون الحياة، الاستثناء الوحيد في هذه المسيرة العالمية هو العالم العربي في كل مساحاته وفي كل شعوبه، ولا شك أن هذا الاستثناء يثير أسئلة مهمة؛ لماذا تخلف العرب خاصة؟ ولماذا توقفوا وعجزت إمكاناتهم عن التقدم ومواكبة المسار العالمي الذي يسير إلى المستقبل بسرعة البرق؟ هل للثقافة العربية علاقة بالأمر أو التاريخ أو حتى الدين؟ كل تلك أسئلة مشروعة، ومشروع الحديث عنها على كل المستويات التي يمكن أن تحل لغز التخلف العربي وسبب ارتكاسه ونكوصه عن مسيرة الأمم التي يعيش معها على كوكب الأرض الذي اتسعت مساحته لحركة الناس كافة ولم تتسع للعرب بينهم.
لم يكن هذا السؤال جديدا ولكنه سؤال كرره الكتاب والأدباء والمفكرون من العرب وغير العرب منذ مئة عام ولم يجدوا الإجابة المقبولة حتى الآن، مع أن الواقع والدلائل تشير إلى أن العالم الذي تطور وتغيرت حياته لم يحدث له ذلك حتى بدأ بتصحيح ثقافته وراجع تاريخه الطويل وناقش ماضيه كله ولم يقدس شيئا مهما كان ولم يستثن شيئا من الفحص والتدقيق في صلاحه والاستفادة منه، بل تعامل مع كل ذلك بعين فاحصة ناقدة ترى ما يمكن أن يصحبه من تاريخه وما يصلح لحاضره ومستقبله من التاريخ والثقافة، أما ما كان من الماضي ومن نتائجه فقد تخلى عنه الناس وأوقفوا العمل به وفصلوا فصلا تاما بين ما يصلح للحاضر وبين ما انتهت صلاحيته مع الماضي فتجاوزوه وتركوه وراء ظهورهم، ولهذا السبب
انطلقت الأمم وهي خفيفة الحركة غير مثقلة بإرث الآباء والأجداد الذي صنعوه لأنفسهم وليس إرثا ملزما لمن جاء بعدهم، وعرفوا أن أساطير التاريخ لا يصح الكثير منها وأيقنوا أن ما كان لأجدادهم في زمانهم لا يصلح لهم في حاضرهم ولا في مستقبلهم.
ومع أن هذا الذي فعله العالم المعاصر هو ما كنا نردده في ثقافتنا قبل ألف وخمسمئة عام حين عرف أسلافنا عامل الزمن وفوارق الأجيال وقالوا: لا تؤدبوا أولادكم بآدابكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم. أرأيتم كم كان أسلافنا أفقه منا وأعلم بمصالح الناس وما يصلح الأجيال وما يتطلبه تحول الزمن وتبدل الناس في الفترة القصيرة بين الجيلين، بينما نحن اليوم نؤدب الناس كافة بآداب وعلوم وأحداث وأيام مضت عليها السنون ومرت الحقب المتتابعة وفصلتنا عنها وعن كل ما فيها، والتعلق بها ضرب من الركود القاتل والعودة إلى الخلف وعدم التقدم إلى الأمام، وليس معنى ذلك أن ننبت عن تاريخنا أو نتجاهل الصالح والجميل منه، إنما نعني أن نتجاوز الهوامش العريضة الغامضة التي أضافتها القرون والأحداث وأوقد نارها الجدل الطويل بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
هذا الهامش العريض هو ما يجب التخلص منه أو على الأقل التقليل من سطوته على نص المتن الصافي الذي لا خلاف عليه بين أهل التاريخ ومن يعيش فيه وبين أهل الحاضر والمستقبل الذي تتطلع له الأجيال.
المتن الصافي لم يعد مقروءا لأنه غاب في هوامش ضخمة أملتها ظروف من الاعتلال الثقافي الذي أصاب الحضارة العربية في مقتل فأوقفها قراء الهوامش السوداء وعبادها عن العودة إلى المتن الصافي من التاريخ وفصلوا بينها وبينه.
نقلا عن صحيفة مكة