كثیر من الناس یجھل العلاقة التاریخیة بین علمي الفقھ والجبر، وكیف أن النشاط الفقھي في
حقبة زمنیة ما نتج عنھ علم ریاضي مھم -كعلم الجبر- ما زالت تنھل البشریة من فوائده
حتى عصرنا الحدیث، بل إن مصطلح الجبر قد انتقل إلى لغات أجنبیة دون تغییر تحت مسمى
.«algebra»
یذكر أیضا أن ّفن الحساب بقي حتى الآن یدعى في البلاد الأوروبیة «الغوریثمي»
«Algorithmy ،«وھو تحریف لاسم الخوارزمي الفقیھ الحنفي، المشھور بصفتھ عالما
ریاضیا، ولكن لا أحد یعرف أنھ كان إماما وفقیھا مبرزا في المذھب الحنفي، فضلا عن أن
كثیرا من الفقھاء كانوا یمیلون إلى تطبیق نظریات الخوارزمي الحسابیة في مسائل
المواریث، وھو دلیل على إقرارھم إمامتھ في الفقھ، ورضاھم عن اجتھاده في علم الجبر وتوظیفھ في مسائل الفقھ.والمعروف أن الفقھ الإسلامي نتاج عربي إسلامي محض، وكما أشار المفكر المغربي محمد عابد الجابري، أن الحضارة الإسلامیة ھي «حضارة
فقھ»، فإذا نظرنا إلى الحضارة الإسلامیة من ناحیة الكم أو الكیف، فإننا سنجد الفقھ یحتل الدرجة الأولى دون منازع، فھو المعبر الأھم عن العقلالعربي وخصوصیتھ، كما یرى الجابري.
وفي علم الجبر، الذي یمكن اعتباره ھو الآخر، عنوانا صادقا للحضارة الإسلامیة، لا یقل ارتباطا بالعقلیة العربیة عن علم الفقھ، فكلاھما عبّرا عنحاجة عملیة للمجتمع الإسلامي في حقبة سابقة، وھذه الحاجة دفعت العالِم الریاضي والفقیھ الفذّ -الخوارزمي- إلى تألیف كتابھ «الجبر والمقابلة»،
لسد حاجات الناس العملیة في حیاتھم الیومیة، من معاملات وبیع وشراء وتقسیم غنائم، وقیاس لمساحة الأرض والمكاییل والموازین، خصوصا فيالمواریث أو ما یُعرف بعلم الفرائض، فقد كان علم المواریث أقرب إلى الریاضیات من أي علم آخر.
ویشیر الجابري في كتابھ نقد العقل العربي، إلى العلاقة بین الریاضیات والفقھ قائلا «إن حاجة الفقھ النظري -وبكیفیة خاصة علم الفرائض- قد دفعتالریاضیات العربیة إلى التطور والتجدد، بل ربما إلى اختراع علم الجبر والمقابلة. إننا نكاد نجزم بأن الجبر العربي یدین في وجوده للفقھ والفقھاء».
فمن نافل القول، إن علم الجبر لیس إلا ّ تفرعا من علم الفقھ، فھو مجرد آلة یستخدمھا الفقیھ لحل القضایا المعقدة في المواریث والوصایا، إذ استطاععلماء الریاضیات في الإسلام أن یخضعوا ھذه العلوم التجریدیة للأوامر والوصایا الدینیة بكل دقة وإتقان، فقد انصبّت محاولاتھم في اتخاذ أوامر
الدین وتعالیمھ نقاط ارتكاز، للوصول إلى صیغ ریاضیة عامة، وحول ھذا الموضوع یؤكد جوان فیرینیھ في كتابھ «الریاضیات والفلك والبصریات»
قائلا «إذا تحرینا الدقة نجد أن أصل التطور العلمي للریاضیات عند المسلمین یبدأ مع القرآن الكریم، وذلك فیما ورد في القرآن الكریم من الأحكامالمعقدة في تقسیم المواریث».
ولم یقتصر دور علم الجبر على حل القضایا المتعلقة بالمواریث والوصایا، بل تجاوزه إلى قضایا فقھیھ أخرى، لقد أسھم علم الجبر في معرفة مقدارالزكاة، وتحدید اتجاه القبلة، ومعرفة شھر رمضان ومواسم الحج، وتحدید أوقات الصلاة، ومثل ھذه المسائل تتطلب معرفتھا دقة كبیرة، لتأدیةالفروض الدینیة على نحو سلیم، ولھذا كانت المھمة الموكلة لعلماء المسلمین -بالدرجة الأولى- ھي إیجاد قواعد ومناھج یمكن عن طریقھا وضعالحلول المناسبة للمسائل التي طرحھا الدین، وتسھل عملیة استنباط الأحكام الفقھیة بیسر وسھولة.
إن النشاط الفقھي في الحضارة الإسلامیة كان یتسم بالعلمیة والمنھجیة والدقة، التي ھي سمة من سمات علم الریاضیات التطبیقیة، إذ أمكن تطبیقھاعلى القضایا الواقعیة التي ّ تمس حیاة الناس الیومیة، وھي تختلف عن الریاضیات التأملیة عند بعض الشعوب. فإذا كان الیونان -على سبیل المثال-
قد اتجھوا نحو التأمل المجرد والاستمتاع بھذا التأمل، وھذا ھو مفھوم العلم لدیھم، وخلال ھذا التأمل استخلصوا بعض القوانین العامة، حسباعتقادھم وحسب حدود المعرفة لدیھم.
إن الجبر كونھ عملیة یتم فیھا نقل كمیة من طرف المعادلة إلى طرفھا الآخر، مع مراعاة تغییر الإشارات السالبة والموجبة، وھو الأسلوب العلميالذي ّمكن من اكتشاف المجھول من المعلومات المعطاة، ودون معرفة الصفر واكتشافھ لا یمكن إیجاد حلول لھذه العملیات. وعملیة إیجاد المجھول
من المعلومات المعطاة ھي ما حفز الفقھاء على تأسیس علم الجبر، من باب تسخیر العلوم الدنیویة لخدمة العلوم الدینیة.
فكما ذكرنا آنفا، إن الحاجات الدینیة دفعت العرب إلى ھذا الاتجاه، فعلم الجبر ھو ابتكار إسلامي منبعھ الفقھ، سواء من حیث الباعث أو الموضوع أوالمصطلح، والخوارزمي -كما نعلم- عالم متعدد المواھب، اشتغل في الریاضیات والجغرافیا والفلك، ولكنھ أسس لعلم الجبر بصفتھ العالم الفقیھ،وغرضھ الأول حل القضایا الفقھیة، كما ذكر الخوارزمي نفسھ في كتاب الجبر والمقابلة قائلا «على أني ألّفت من كتاب الجبر والمقابلة، كتابامختصرا حاصرا للطیف الحساب وجلیلھ، لما یلزم الناس من الحاجة إلیھ، في مواریثھم ووصایاھم وفي مقاسمتھم وأحكامھم وتجاراتھم، وفي جمیعما یتعاملون بھ بینھم، من مساحة الأرضین وكري الأناھر والھندسة، وغیر ذلك من وجوھھ وفنونھ».
نقلا عن الوطن السعودية