هواتفنا المحمولة اليوم تشبه سكاكين الجيش السويسري، لكن مع اختلاف بسيط: تلك السكاكين كانت تُخرجك من مأزق، أما هذه الهواتف فتضعك فيه ثم تقنعك أنك حرّ. بضغطة زر، يمكنك أن تحجز رحلة إلى جزر الكناري، تشتري زيت الزيتون البكر الممتاز، أو تملأ استمارة ضريبية. باختصار، الهاتف أقنعنا أننا ما زلنا أسياد أفعالنا، بينما في الحقيقة نحن مجرد موظفين غير مدفوعي الأجر في شركات التكنولوجيا والإدارات العامة.
هذه الأجهزة التي نسميها «هواتف» لم تعد هواتف أصلًا. إنها مذكرات ودفاتر شيكات وكاميرات وتجسيد حيّ لمكتب حكومي كامل محشور في جيبك. جهازك أصبح بطاقة ائتمان، بطاقة هوية، مفتاح بابك، ومخبرا وفيّا يسلّم بياناتك طازجة لشركات لا تعرف حتى وجوه أصحابها. كل ذلك وأنت تبتسم بفخر: «انظر كم أنا متطوّر!»، بينما تُباع بياناتك مثل الطماطم في سوق الجملة.
المشكلة ليست في التعدد الوظيفي، بل في تعدد الأعباء. لقد تحوّلنا جميعًا إلى موظفي «خدمة ذاتية»: أنت الآن موظف بنك، وكيل سفر، بائع في متجر شامل، وعامل في إدارة حكومية. الفرق الوحيد أن موظفي الزمن الماضي كانوا يتقاضون رواتب، أما أنت فتدفع ثمن الهاتف، الاشتراك، الكهرباء، ثم تُهدي بياناتك كعلاوة. إنها عبقرية الرأسمالية: جعلت الناس يعملون مجانًا وهم شاكرون.
خذ مثلًا الإدارات العامة: نفس الأوراق، نفس البيانات، يطلبونها ألف مرة وهم يملكونها منذ الألف الأولى. كأنهم يقولون: «نحن نعلم أنك مواطن، لكن نحتاج إثباتًا متكررًا كي لا ننسى». أما الشركات، فهي تتركك بين تطبيقات متشابهة، والفائز في السوق ليس من يحترمك، بل من يجعل عبوديتك الرقمية أكثر سلاسة.
الأمر لم يعد مجرد «رقمنة» لأنشطتنا. المسألة أعمق: إعادة توزيع العمل نفسه. الشركات توفر موظفين، الحكومات توفر وقتًا، أما نحن فنوفّر عُمرنا كله ونخرج بخفي حُنين. وحتى الخفّان قد يكونان تطبيقين جديدين يُفرضان علينا في التحديث القادم.
هل هناك خاسرون؟ ربما نحن فقط. أما الرابحون، فهم من جعلونا نصدق أن هذا كله «حرية».
كما قال فوكو: البانوبتيكون كان سجنًا برؤية شاملة. لكننا اليوم ندخل هذا السجن بأنفسنا، نحمله في جيوبنا، وننظر إلى القضبان على أنها شاشة لمس تتيح «خيارات لا محدودة».
لقد أصبحنا – ويا للمفارقة – مواطنين رقميين كاملين، بواجبات واضحة وحقوق ضبابية، نعمل ليل نهار في نظام لم نوقّع فيه عقود عمل. نحن الموظفين المثاليين للرأسمالية الرقمية: لا نتذمر، لا نضرب عن العمل، ولا نتقاضى شيئًا سوى إشعارات تقول: «تهانينا! لقد أتممتَ مهمتك بنجاح».
