منذ انطلاقة الثورة الصناعیة في أوربا، كان الأوربیون یشعرون بتفوقھم على بقیة الأعراق، وسیطرتھم على العلم والفكر والإنتاج، خاصة بعدأن تمكنوا من ابتكار وسائل التقنیة التي میزتھم بالقوة عن كثیر من الأمم، ودعمت جیوشھم وسفنھم بمعدات مكنتھم من السیطرة العسكریة بعدالھیمنة الاقتصادیة. وانطلقت جحافل جیوشھم بدءاً من القرن الخامس عشر المیلادي تحتل بلدان العالم شرقاً وغرباً وجنوباً، وتستعمر سكانھا،وتنھب خیراتھا وتنشر فكرھا ولغاتھا في تلك المناطق المستعمرة. ومنذ أن احتل الأوربیون القارتین الأمریكیتین، واضطھدوا سكانھا الأصلیین،وھم یتمددون في كثیر من المناطق والجزر القاصیة في تنافس شدید بین تلك القوى الأوربیة الغازیة المستعمرة، التي تبحث عن المزید من
.خیرات تلك البلدان ومواردھا
وقد أحدثت تلك الأوضاع نزاعات جزئیة تتحول أحیاناً إلى صدامات كبرى بین تلك القوى المتصارعة على الھیمنة، حیث كانت آخر تلكالنزاعات المدمرة ما حدث في الحربین العالمیتین خلال النصف الأول من القرن الماضي. لكنھا في النھایة مثلت كتلة واحدة متعددة المصالح،غیر أنھا متفقة في المبادئ، وھي التي نطلق علیھا في مقالنا ھذا «الخطاب الغربي»، وتمتد من أوروبا إلى أمریكا الشمالیة مروراً بأسترالیا.وبعض القوى المتحالفة معھا ضمن حلف الناتو، أو بعض الكیانات الاقتصادیة المؤثرة
وقد اتسم الخطاب العام لھذه الكتلة التي یطلق علیھا مجازاً «العالم الغربي»، وإن كانت بعض بؤرھا في الشمال أو الجنوب، بنوع من التعاليعلى الثقافات الأخرى، وبلغة فیھا إملاء القوة على الشعوب التي لا تدور في فلكھا، أو تخضع لمبادئھا. وقد أصبحت كل واحدة من تلك القوىتسعى إلى قید كثیر من البلدان والشعوب تحت ھیمنتھا، وتجعلھا تتحدث لغتھا، لتكون مدخلاً لھا بزیادة نفوذھا وتوسیع رقعة سیطرتھا علىالقرار العالمي. واستمر الوضع على ھذه الحال، إلى ما بعد الحرب العالمیة الثانیة في منتصف القرن الماضي، حیث انفردت الولایات المتحدةالأمریكیة بقیادة الكتلة الغربیة، في مواجھة الاتحاد السوفییتي متزعماً الكتلة الشرقیة (الاشتراكیة العالمیة). وخلال تلك الحرب الباردة التي
استمرت أربعة عقود بین القوتین العظمیین، كما كان یُطلق علیھما، حدث ترسیخ لوحدة الخطاب الغربي (بما یدعي احتواءه لقیم اللیبرالیةوالدیمقراطیة وحقوق الإنسان التي جرى إقرارھا في مبادئ منظمات الأمم المتحدة، وأصبحت تشریعاً سیاسیاً عالمیاً). وفي العقد الأخیر منالقرن الماضي، مع تفكك منظومة الكتلة الشرقیة وسقوط الاتحاد السوفییتي، أصبحت القوة الأمریكیة (قائدة للغرب) ھي القوة الوحیدة في العالماقتصادیاً وسیاسیاً وعسكریاً؛ وھو الأمر الذي أعاد الشعور بالغرور إلى خطاب الغرب، وخاصة في نسختھ الأمریكیة. فقد أصبح مطلوباً أنتنتشر الرؤیة الأمریكیة إلى العالم بأجمعھ، وأن تخضع جمیع البلدان التي لا ترید الحصار إلى منظمة التجارة العالمیة، بما في ذلك التیار الذي
.أصبح قوي النشاط في المؤسسات الأمریكیة نحو «عولمة العالم» في كل من السیاسة والاقتصاد والتجارة
ورغم وجود بعض الإخفاقات في تحویل العالم بثقافاتھ المختلفة ومبادئھ وفكره وأدیانھ المتعددة إلى نموذج واحد یتوافق مع الرؤیة الغربیة، إلاأن مراحل متقدمة قد قُطعت في ھذا الاتجاه خلال العقدین اللذین تلیا التفرد الأمریكي بقیادة العالم. لكن نكسة كبیرة لھذا الخطاب قد حدثت بعد.ذلك؛ نتبینھا في المقال التالي الذي نحدد فیھ عناصر انحدار ذلك التعالي
نقلا غن صحيفة اليوم السعودية