الأفذاذ من الناس قلیل ولكنھم یوجدون على كل حال وأحیانا یستولي القلائل منھم
على مساحة واسعة من التاریخ، ولا سیما أصحاب العدل وأصحاب النزاھة والعفة
.ومن یتولون الأمور لعامة الناس فیحسنون ویعفون
ولعل أشھر شخصیة في الثقافة الإسلامیة والعربیة الخلیفة الصالح عمر بن
عبدالعزیز، وكم بیننا وبین عمر من الزمن ولم ینقطع ذكر عدلھ واحترامھ للمال
العام وعفتھ وزھده فیھ، ولا شك أنھ قد وجد في التاریخ من ھو مثل عمر بن
عبدالعزیز، ولكن لسبب أو لآخر لم یستطع التاریخ حفظھم كما حفظ ذكر عمر
.وعدلھ
ومن دون الخلفاء والسلاطین والولاة ھناك مكانة في سلم المسؤولیة لعشرات أو
مئات كانت نزاھتھم وعفتھم وإخلاصھم لما یتولون من مسؤولیات فریدة لا
یستطیعھا غیرھم، لكنھا تغیب معھم ولا یذكرھا أحد بعدھم، والقلیل منھم من یكون
محظوظا لسبب أو لآخر، فیحدث أن یعید التاریخ ذكره وینشره وقد یكون للصدفة
.عمل فیما یحصل لھ حتى ولو بسطو سارق على ما في جیبھ
ومناسبة ھذا المقال شيء من ذلك، وھي قصة للقاضي السوداني عثمان الطیب
علي، قاضي محكمة علیا ونائب عام للدولة ثم رئیس للقضاء في السودان، تقاعد
وھو لا یملك سیارة ولا وسیلة مواصلات ویستعمل النقل العام، وحدث مرة أن
جلس بجانبھ لص وسلب محفظتھ فانتبھ الركاب لعمل اللص وأخذوا السارق
والمسروق إلى المحكمة، سأل القاضي حسن عثمان النور المسروق عن اسمھ
وعملھ، فلما أخبره بعملھ السابق وبكل المواقع العلیا التي تولاھا في القضاء
وآخرھا رئیس المحكمة العلیا في عموم السودان بھت القاضي الذي ینظر القضیة،
أفي كل ھذه المواقع العلیا من دائرة القضاء ولم یجد بعد تقاعده سیارة تغنیھ عن
التنقل بین اللصوص والسراق؟ أثار الموقف نخوة القاضي ومروءتھ فأمر بتأمین
سیارة خاصة للقاضي المتقاعد حالا فتم ذلك، وعند وفاتھ وجدوا أنھ قد أوصى أن
.تعاد السیارة إلى الوزارة. ھذه باختصار القصة السودانیة
ذكرني عمل القاضي ورئیس القضاء السوداني الذي خرج من كل مناصبھ للتقاعد
وھو لا یملك شیئا، ولو شاء لملك الكثیر، ذكرني بالوجھ السعودي من القصة أو
بالصفحة السعودیة منھا، وھو شیخ مثلھ ولكن في مجال غیر مجال القضاء، مجال
المال والثراء والأخذ والعطاء والجاه أیضا، وھي الأرض وما أدراك ما الأرض
في حاضرنا، تلك التي وصفتھا في مقالة سابقة بالذھب الأغبر، ذلك ھو الشیخ
إبراھیم البلیھي، وھو مثل سابقھ خریج شریعة وكان بإمكانھ أن یكون قاضیا مثل
القاضي السوداني، ولكنھ لأمر لا أعرفھ اتجھ إلى البلدیات، ومن منا لا یعرف
أھمیة البلدیات وقیمتھا وأھمیة أن تكون موظفا فیھا ولو في أدنى درجات السلم
.الوظیفي، لتضمن الغنى والثراء العریض والمكانة عند علیة القوم وخاصتھم
والبلیھي لم یكن موظفا عادیا، بل ھو مثل صاحبھ القاضي السوداني یتنقل من
موقع تنفیذي إلى ما ھو أعلى منھ، رئیسا بلدیة خمیس مشیط ثم رئیسا لبلدیة منطقة
حائل، وبعد ذلك مدیرا عاما للشؤون البلدیة والقرویة في المنطقة الشرقیة ثم مدیرا
عاما للشؤون البلدیة والقرویة في منطقة القصیم، ومتى كان ذلك؟ كان ذلك یوم أن
مراسل البلدیة - ولیس موظفھا فحسب - یستطیع أن یكسب المال ویخرج بالثراء
الذي لا یسألھ أحد من أین جاء بھ، كانت المنح وكانت تجارة الأرض ھي التجارة
.الرائجة للناس كافة، فضلا عمن یتولى قسمتھا بینھم وتوزیعھا علیھم
انتھت قصة البلیھي كما انتھت قصة القاضي ورئیس القضاء عثمان الطیب، خرج
البلیھي إلى التقاعد ولم یحصل على شبر من الأرض الموات مع كل ھذه المواقع
التي ملأت حیاتھ وأغنت آلافا غیره، وسكن في بیت متواضع مستأجر في حي
.شرق مدینة الریاض
انتھت القصتان، وبقیت العقدة، والفرق بینھما أن القاضي السوداني سلط الله علیھ
لصا كشف أمره للناس فعرفوا فضلھ وقدره واحترموا نزاھتھ وعدلھ. فعسى الله أن
یھب للبلیھي لصا یقتحم علیھ بیتھ الذي لن یجد فیھ غیر بنیة الجھل وأسبابھ
والتخلف وعواقبھ التي قضى عمره یدیر الأفكار فیھا، ویحاول أن یجد طریقا
لخروج أمتھ منھا، ولیت لكن ھل ینفع شیئا لیت؟
نقلا عن صحيفة مكة