عندما كتبت مقالتي الأسبوع الماضي عن الحرب على القطاع الخاص، لم أكن أتخيَّل كم، ومستوى التفاعل معها. لقد كان تركيزي على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ولكن يبدو أن الشركات الكبيرة تئن من نفس المعاناة، إن لم يكن أكثر.
خلال زيارتي الأخيرة للمدينة المنورة لاحظت بحزن إطفاء الأضواء في معظم المحلات التجارية حول الحرم النبوي الشريف، وعلى مسار قباء والشوارع الرئيسية، لدرجة أنني والأسرة لم نجد مطعمًا واحدًا في المنطقة المركزية.
في شوارع وأسواق ومراكز وأبراج وعمائر تجارية وإدارية رئيسية بمدينة جده كان فيها إيجاد المحل للإيجار ضربًا من المستحيل، إلا عن طريق التقبيل، أو المزايدة على محلات جديدة، أغلقت الأبواب ورحل المستأجرون، وعلقت لوحات مغبرة على جدرانها "للإيجار أو الاستثمار". وما تبقى منها، تعلق البلدية على كثير منها ملصقات "تم الإغلاق لمخالفة الأنظمة".
تسأل أصحابها فتجدهم غارقين في ديون لتسديد غرامات وعقوبات وإيجارات ورواتب وقروض وضرائب متراكمة، لم تعد تغطيها إيرادات المحلات المتناقصة لضعف الاستثمار فيها وقلة العاملين ونقص الحماس والاشتراطات الصحية لجهات مختلفة بسبب الوباء والحرص على الصحة العامة. وفي المقابل، زادت تكلفة المواد الأولية والكهرباء والخدمات العامة والتصاريح، وضعف الإنفاق العام.
تخيل تاجرًا أو مقدم خدمة يكون مستغرقًا في متابعة الرسائل البنكية ومن الدوائر الرسمية، وملاحقة الأنظمة الجديدة، وتطبيق الاشتراطات المتزايدة، كيف يمكن أن يدير عمله بحرفية ويتفرغ للإبداع والارتقاء بمستوى الخدمة؟ كيف سيجد وقتًا للتوسع وفتح فروع وإضافة مزايا ومنتجات وعروض منافسة؟ هذا عن المحترف والخبير، أما رواد الأعمال من الشباب والسيدات والمتقاعدين فبالكاد يفكون الحرف في لوائح التنظيمات وطرق التعامل معها عن بعد، ليجدوا متسعًا لإدارة المحلات ومواكبة المستجدات.
المشكلة أن كثيرًا من الموظفين والعاملين في مراكز الرد على الاستفسارات بالجهات الرسمية لم يستوعبوا بعد الأنظمة والتعليمات. تقول سيدة لديها مؤسسة لتنظيم المناسبات والمعارض تديرها بنفسها من المنزل، أنها راجعت المركز الموحد للخدمات الحكومية في الدمام لتسأل عن المسائل الضريبية فطمأنها كل من سالتهم أنها لن تخضع للفاتورة الضريبية طالما أنها لا تملك محلًا وليس على كفالتها موظفون ورأس مالها ودخلها محدود للغاية. إلا أن محاميًا ومستشارًا خبيرًا في هذه الشئون حذرها أن التنظيمات الجديدة الصادرة لا تعفيها، وإذا لم تدفع اليوم فستدفع غدًا أضعافًا مضاعفة، كما حدث لكثير من البسطاء أمثالها. ونبهها بأن ردود الموظفين الشفهية لن تفيدها بشيء، حتى لو أقروا بما قالوه لها. وعليها أن تبحث بنفسها في مواقع الإدارات المختلفة، يوميًا، وتقرأ كل الأنظمة بدقة، وتستشير أهل الخبرة. كما أن معظم العملاء يشترطون وجود رقم ضريبي. وبعض الذين حصلوا على هذا الرقم طولبوا بأضعاف دخلهم، ولم تشفع لهم خسائرهم.
ثم كم يكلف التعاقد مع محامين ومستشارين ومعقبين؟ بالتأكيد أكثر من الوقت المتاح ورأس المال المتوفر والدخل الفعلي. إذن ماذا تفعل؟ هل تتخلى عن حلم العمر بالعمل في مجال تحبه وتبدع فيه؟ أم تغامر وتواصل حتى يأتي الله بأمر من عنده؟ ولو أغلقت اليوم فهل تضمن أن لا تلاحقها الضرائب والرسوم غدا؟ اسئلة حائرة، محبطة، مقلقة. وبالنتيجة، مكانك سر، لا عمل ولا قرار.
يُحيرني الأمر وأعجز عن تفسير وتبرير ما يجري. ما هي المصلحة من محاربة القطاع الخاص؟ ماهي جدوى تكبيل مجتمع الاعمال بمصاريف لا يقوى ظهر على حملها؟ ولماذا حملة التنفير لشباب وشابات الأعمال وصغار المستثمرين؟ وما هي الخيارات المتاحة أمامهم؟ هل يرحلون بما تبقى من رؤوس أموالهم إلى الخارج؟ أم ينضمون إلى قوافل الباحثين عن وظائف؟ وكيف يتفق هذا مع استراتيجة الرؤية السعودية 2030 بتمكين القطاع الخاص ورواد الأعمال وتشجيع الشباب والمرأة على خوض غمار التجارة والعمل الحر؟ أليس من من أهم أهداف الرؤية إرسال مؤشرات نجاح وطني تحفز المستثمر الأجنبي للمشاركة والإسهام؟ هل هذا هو المؤشر الذي نود ان نرسله؟
نحن بحاجة سريعة إلى وقفة ومراجعة شاملة لكل الأنظمة الجديدة. فالحفاظ على الصحة العامة والمظهر العام، ومكافحة التلوث البصري، وتنظيم الأنشطة التجارية والعقارية، وتوطين الأعمال، وزيادة دخل الجهات الرقابية، ورفع مستوى الإشراف على المنشآت الخاصة، وحماية الأجور والمستهلك ورقمنة الخدمات والتعاملات الرسمية، كلها أهداف وطنية عالية الأهمية ولا خلاف عليها.
ولكن المشكلة تكمن في التطبيق القاسي والمتسرع والمتناقض. وبعدم مراعاة دخل وظروف واحتياجات أصحاب الأعمال. وبفرض الأنظمة بأثر رجعي، بدون توعية وتوجيه وسابق إنذار. وبعدم إعطاء فرصة زمنية كافية للتصحيح والتجاوب أو الاعتراض. وبتقديم المصلحة المادية للمراقب الذي يتقاضى نسبة على كل غرامة، وعليه تحقيق النصاب اليومي للحصيلة، والجهة الرقابية المستفيدة من الدخل خاصة كانت او حكومية، على العدالة والإنصاف والصحة العامة للاقتصاد. كما هي المعاناة من الأنظمة الفضفاضة؛ بحيث تسمح لكل مراقب بالاجتهاد على حسب فهمه وهواه. أو التعقيد والتفصيل بحيث لا يتسع الأمر للحالات المختلفة وغير المنصوص عليها، وبما يضيق الخناق على أصحاب الأعمال بأدق المعايير والقوانين. ناهيك عن تضارب الأنظمة الصادرة من الجهات المختلفة بدون تنسيق بينها.
(سددوا وقاربوا)، فالتاجر مواطن، وصاحب العقار مواطن، ومقدم الخدمة مواطن، وكل نشاطهم واستثمارهم وعرق جبينهم في خدمة الوطن والمواطن، وإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.
الحرب على القطاع الخاص(1-2)
محمد شاب سعودي قرر أن يُحسن دخله البسيط بدخول عالم الأعمال. قام بدراسة مشروعه لسنوات، قبل أن يحصل على قرض ويستأجر محلًا صغيرًا على شارع تجاري لعمل كافتيريا. ولم يكد يدفع نصف الإيجار السنوي، ويجهز المحل بمتطلبات البلدية والتجارة والدفاع المدني، ويضع اللوحة، ويستقدم العامل، حتى انهالت عليه الشروط والطلبات، بما في ذلك التأمينات الاجتماعية، والصحية، والسعودة!
المشكلة أن الطلبات ليست كلها محددة مسبقًا، فكثير منها يظهر بعد أن تتورط، وتقترض، وتدفع رأس مالك كله. وبعضها أنظمة وقرارات جديدة تُطبق بأثر رجعي، وأخرى اجتهادات من المراقبين للجهات المختلفة. فمندوب وزارة العمل له اشتراطاته، والزكاة والدخل عندها نظامها الخاص، والشرطة تطلب كاميرات، والدفاع المدني أجهزة كشف وإطفاء الحريق، والبلدية غيَّرت تصميم اللوحات ولابد من استبدالها فورًا، والغرفة التجارية تُطالبك بالاشتراك، والقائمة تكاد لا تنتهي.
وفي نهاية السنة الأولى اكتشف أنه لازال يدفع بدلًا من أن يربح. ونصف وقته على الجوال والحاسب الآلي ومراجعة الدوائر الرسمية لمتابعة معاملات ودفع رسوم وتسديد غرامات. ثم جاءت كورونا لتكمل ما نقص من مصائب. وهنا قرر أن ينهي المعاناة، ويوقف نزيف الخسائر، فاستلف مرة أخيرة لتصفية العمل، وبيع المعدات، وإنهاء عقد الإيجار.
وحتى هذه المهمة لم تكن سهلة، "فدخول الحمام ليس مثل خروجه"، كما يقول المثل. فعمل السجل التجاري قد يتم في دقائق، ولكن إغلاقه يأخذ شهورًا، ويتطلب إخلاء طرف من كل الجهات الرسمية والخاصة ذات الصلة، وهكذا انتهت التجربة المريرة بديون وخسائر وقرار أن لا يغامر مرةً أخرى في عمل تجاري حتى ولو بات مع أسرته الصغيرة بلا عمل.
بسمة صدقت كل الدعايات عن دعم رواد العمل وتمكين المرأة، فقررت أن تضع ما ورثته عن أبيها في مشروع مغسلة ملابس، ولكي تضمن النجاح، اشترت محلًا جاهزًا ونقلت كفالة العامل وعقد الإيجار، وبدأت إجراءات عمل رخص جديدة باسمها في كل الجهات المعنية.
هنا بدأت المفاجآت الصادمة. فالبلدية قررت أن الشارع غير تجاري، وأنها اعتمدت إغلاق المحلات الواقعة عليه، ولكنها اختارت أن تبدأ بمحلها تحديدًا. وبعد أشهر من المراجعات والخسائر المتراكمة، سلمت أمرها لله، وباعت المحل بخسارة، وفتحت محلًا جديدًا في موقع آخر، توافق البلدية عليه مسبقًا. تكررت الطلبات والرسوم والغرامات، ولما بدأ المحل ينشط قليلًا، جاءت كورونا وأنهت المحاولة الجديدة بالضربة القاضية، وهنا حلفت بالطلاق أن لا تعود لمثلها أبدًا!
وكأن كل هذه التحديات التي تواجه أصحاب الأعمال ليست كافية، لتتعاقد جهات حكومية، مثل البلديات، مع شركات خاصة لتقوم نيابة عنها بأعمال الرقابة وإصدار المخالفات والعقوبات الفورية، وتتلقى مقابل ذلك نسبة من قيمة الغرامات. وهكذا يصبح من مصلحة المراقب، والذي تم تمكينه خصمًا وقاضيًا وجلادًا، أن يدخل أي محل؛ ليصدر مخالفة على بلاطة مكسورة، أو مصباحًا محروقًا، أو زبونًا لم يلبس الكمامة، أو تصريحًا منتهيًا، بدون إنذار مسبق، أو حتى نظام معروف، ولا يكاد يخرج من المحل، حتى تصل رسالة بالجوال لصاحب المحل بالغرامة المستحقة، بالآلاف، وربما يضاف عليها إغلاق المحل.
ثم يأتي الدور على مراقب التأمينات أو العمل والعمال أو الدفاع المدني أو الزكاة والدخل أو التجارة، وتنهال المخالفات واحدة فوق الأخرى، حتى يعجز المالك عن الدفع، فيغلقون محله نهائيًا، ويعلن إفلاسه. المضحك المبكي، أن الغرامات قد تستمر بعد الإغلاق. فطالما هناك مصلحة مادية للمراقب والجهة، فالعقوبات ستطارد التاجر حتى السجن أو القبر.
هذه، كما تبدو، حملة منظمة على القطاع الخاص، على رواد الأعمال، على المبادرة الفردية والعمل الحر. والنتيجة هي هذه المحلات المغلقة في كل شارع، والشباب الباحثون عن عمل بعد أن خسروا وظائفهم فيها، والديون المعلقة على رؤوس أصحابها، وبالنهاية الخسارة الحتمية لجهات التحصيل، لأنها قضت على الدجاجة البياضة، بدلًا من أن ترعاها لتواصل إنتاجها فيستفيد الجميع.
وزارة العمل أصدرت نظامًا جديدًا يراعى رواد الأعمال بتخفيض الغرامات 80 بالمئة في السنة الأولى، مع تقديم التوجيه والتوعية لأصحابها. خطوة كبيرة في الاتجاه الصحيح، ولكن ماذا بعد السنة الأولى؟ بعد أن يودع المستثمر كل ما يملك في مشروعه؟ هل هي مصيدة؟ وهل أصحاب الأعمال الأطول عمرًا لا يستحقون الشفقة والدعم والتوجيه؟ وكيف يكون من العدل أن يعاقب إنسان على مالم يعرف أصلًا أنه ذنب؟ كيف يُعذر من لم ينذر؟ وهل يجوز تطبيق الأنظمة بأثر رجعي؟ ما ذنب التاجر الذي التزم بكل ما جاء في كراسة المواصفات لنطالبه بعد أن أنفق ثروة في تطبيقها بمواصفات جديدة مع الغرامة والإغلاق حتى ينفذها؟
مطلوب فورًا مراجعة شاملة وسريعة من كل الجهات المعنية لأنظمتها وسبل تطبيقها، بالتنسيق مع بعضها البعض حتى لا تتضارب وتتناقض، وإيجاد مراكز موحدة معنية بإصدار الرخص ومراقبة الأسواق، وإلغاء نظام مكافأة المراقبين بنسبة من الغرامات، ووضع آلية واضحة وسهلة للاعتراض، قبل الدفع، وليس بعده.
مطلوب استراتيجية شاملة لدعم مكنة الاقتصاد الوطني، القطاع الخاص، الذي تنص رؤية السعودية 2030 على شراكته للقطاع العام في التنمية، ولتشجيع رواد الأعمال وتوجيههم. ولنتذكر أن من أهدافنا العليا القضاء على التستر وتمكين المواطنين بالإحلال، وتشجيع الشباب والمرأة والمتقاعدين على اقتحام عالم الأعمال، وأن هؤلاء هم شركاء نجاح وقادة مستقبل، وليسوا خصومًا أو فرائس، وأن المؤسسات الصغيرة والمتناهية الصغر هي ماكنة الاقتصاد، وأن تجارة التجزئة مكملة لتجارة الجملة والتجارة الإليكترونية. وأن إغلاق محل هو نهاية وظائف، وإيجار، وفواتير خدمات عامة، ومصلحة عامة. والرسوم والعقوبات قد ترفع دخل الجهات المحصلة اليوم، ولكن تفليس المحلات غدًا سيفقدها هذا الدخل، فقليل دائم خير من كثير منقطع.
ــــــــــــــــــــــ
نقلا عن صحيفة مكة