- موقف إداريّ أوليّ
لم يكن اختياري لجامعة القصيم عامّة، وبرنامج الدكتوراه بقسم اللغة العربية بجامعة القصيم -خاصّة- مصادفة، بل جاء لاعتبارات أهمها تلك الخطوات التي خطتها الجامعة في الدراسات، وتعدد المجالات، وحرمها الجامعيّ الذي يُعدُّ من أجمل الأماكن، تصميما، وهيكلة، ومكان عمل، ثم لما لبرنامج الدكتوراه فيها من سمات، يمكن تلخيصها في: اسم البرنامج (الفلسفة في الدراسات اللغويّة) الذي يُعطي صورة عن منهج القسم، ورؤيته، كما أن القسم قطع شوطا كبيرا في الدراسات اللغويّة الحديثة، وهذا هو مجال اهتمامي.
كما ضمَّ القسمُ أسماء أساتذة كبار كانوا -أيضا- من ضمن اهتماماتي، خاصة الأستاذ الدكتور: عز الدين المجدوب، الذي سيرد اسمه كثيرا في سلسة هذا المقال؛ لما له من فضل كبير في بناء الجوانب البحثيّة عندي، (وإن كانت ولا زالت تحتاج الكثير) فكانت تلك الجامعة هي الخيار الأفضل، مع وجود فرص أخرى بفضل الله تعالى في جامعة الملك عبد العزيز، والجامعة الإسلاميّة في المدينة المنورة، ولهاتان الجامعتان ذكريات ومواقف أيام اختبارات القبول، فيها دروس ونماذج، لازالت محفورة في الذاكرة، مؤثرة في الشخصية، زارعة لكثير من القيم والمبادئ.
وعندما بدأت في الدراسة والبحث اكتشفت أن الله قدَّر لي خير الأقدار، وساقني إلى هذا المكان رغم بُعده، وعدم معرفتي به، لكني وجدت خيرا كثيرا، سواء في حُسن تعامل إدارة الجامعة، أو أعضاء هيئة التدريس، أو من أهل المنطقة الكرماء الأوفياء، فما كأني حينها إلا بين أهلي وعائلتي.
موقف إداريّ أوليّ، خطأ في خطاب القبول:
الخطاب الذي ستُبنى عليه كثير من الأمور اللاحقة، الذي أُرفقه بأوراقٍ تخص جهة عملي، وتُبنى عليه دراستي، ومقرراتي، وتحركاتي، ومناقشاتي، وشهادة تخرجي فيه خطأ، وفجأة يتصل بي عميد الدراسات العليا يخبرني بذلك، ويطلب مني مراجعة العمادة لتغيير الخطاب، فقلت له -صادقا- أنا سافرت إلى أبها، والعودة لكم صعبة، ورحلات أبها -القصيم فيها توقف في جدة أو الرياض، ومواعيد القبول، واستكمال الأوراق شارفت على الانتهاء.
قال لي: إذن أرسل لي على هذا البريد؛ حتى أُرسل لك الخطاب معدلا، ثم أملى عليّ البريد الإلكتروني للعمادة، وكان يُمليه حرفا حرفا؛ حتى أكملته، ثم أرسل الخطاب مباشرة بعد التعديل على بريدي، مكتملا مُعدّلا.
هذا الموقف أشعرني بالفخر أن نجد مثل هذه النماذج المضيئة في جامعاتنا، كما أشعرني بالراحة والطمأنينة أني أدرس في صرح علميّ يقوم على تقدير الطالب واحترامه، ونفعه وخدمته بكل طريقة ممكنه، كما شعرت أن بُعد المسافة، والنأي عن الأهل والقبيلة والجماعة لن يكون حجر عثرة، فإني قد وجدت أهلا وجماعة هناك.
جاء هذا الموقف بعد موقف سابق دخلت فيه على موظف في عمادة الدراسات العليا، فاستقبلني مرحبا، ثم تناول أوراقي، وانتقل إلى مكتب آخر، ولم يَطُل بي الوقت، حتى جاء بجميع ما أحتاجه، عارضا عليّ خدماته التي لم أجد لها مكانا؛ لأن كلّ الأمور المتعلقة بالتسجيل قد انتهت في تلك اللحظة ولم يعد أمامي إلا مباشرة الدراسة، فشكرت له نبلَه، وكريم صنعه، وازددت يقينا أن القادم أجمل، ما دامت هذه بداياتها.
وكان من تيسير الله في تلك الأيام أن وجدت مكانا لائقا للسكن في (حي المنتزه) ببريدة، يرتاده ضيوف المنطقة من الأساتذة والمهندسين، وفيه صرامة من حيث أدب الإقامة، واحترام الساكنين، وله موظف (مصريّ) لبس ثيابَ مرتادي هذا السكن، فتجد فيه هيبةً، واحتراما، ولطفا في التعامل، وحُسن إدارة، كما أن هذا السكن قريب من أماكن مهمة كمكتبة الملك سعود في بريدة، وجامع (النصيان) في بريدة([1])، ومن حديقة الملك خالد، وممشاها الذي ينفث فيه كثير من الناس همومهم، ويُلقون على جنباته مشقّة يومهم، فكم كان لذلك المكان من فضل في إعادة التوازن إلى جسد تُنهِكه الدراسة، وعقل أضناه التفكير.
وفي رحلة طويلة بسيارتي من أبها إلى القصيم، مررت بأماكن، ووقفت في مواقف، وعلمت من ذلك السفر أن الاكتشافات والمفاجآت، والتعرّف على الجديد، وخوض غمار المعرفة ليس في مقاعد الدراسة، وأني قد بدأت في مرحلة تحتاج إلى عزيمة وإصرار، وأن المكاسب ستكون أعظم بكثير من المصاعب.
عنوان المقال القادم من هكذا علمونا الجَلَدَ والبحثَ الرصين: (ضعف مفاجئ).
[1] - سيرد ذكره مستقبلا؛ لما يُنظمه من حلقات في سير علماء المملكة، يقدمها مشائخ وعلماء عاشوا معهم، وتتلمذوا على أياديهم، ولعل ذلك يكون في إحدى سلسلة هذا المقال بحول الله وقوته.