الدول القوية في احتفائها بتاريخها وحضارتها وتراثها، تضع نصب أعينها عدداً من الأولويات التي تخدم أهدافها، من أهم تلك الأهداف، ما شكل الاحتفاء بهذه المقومات؟ ومن المستهدف بها؟ وما العائد منها؟

استفسارات تجيب عليها المتاحف السعودية بإسهاب، فقد اهتمت المملكة منذ فجر التاريخ بإنشاء المتاحف، والاهتمام بوسائل العرض وتطويرها، بما يتناسب مع قيمة المعروضات، ووسائل الحماية الأمنية والفنية على السواء.

في الأيام القليلة الماضية كنت على موعد لزيارة معرض "الهجرة: على خطى النبي صلى الله عليه وسلم"، الذي ينظمه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء) بالتعاون مع عدد من المؤسسات الثقافية المحلية والعالمية، حيث ظهر للنور بعد تداول فكرته بين أكثر من 70 باحثاً ومتخصصاً وفناناً، لمدة 3 سنوات كاملة، فظهر هذه الصرح المتحفي في أبهى صورة، وعلى مساحة معقولة في وسط الرياض، وأدهشني المعرض بوسائل عرضه التفاعلية، التي تؤرخ لحدث الهجرة بشكل عصري وثائقي راقٍ.

لقد أرّخ المعرض لمكان الحدث جغرافياً بدقة، واستعرض الشواهد الإنسانية والتراثية والثقافية في البيئة العربية القديمة، من قبل البعثة، ومروراً بمسيرتها، والرحلة ذاتها، وما حدث فيها من وقائع تم دراستها في مراحل التعليم المختلفة، ولكنها في المعرض تُعرض بشكل شيق، وأسلوب عرض عالمي سينمائي، ثم وصولاً إلى المدينة المنورة، وبناء الدولة الإسلامية الجديدة.

إن كمّ الوثائق والمخطوطات والخرائط، وقصائد الشعر، والمقتنيات من أوانٍ وتماثيل، وأزياء وأدوات حرب، يبهر المشاهد، ويثري قريحته، بل ويضيف إليه الكثير من المعارف والمعلومات، لأن ما سيشاهده سيراه متحركاً نابضاً بالحياة، وهذا هو الجديد في أساليب العرض المتحفي الرائع.

إننا أمام مشهد ثقافي مثير، يستدعي أن نستلهم من مسمى الهجرة، فلسفة الهجرة نفسها، فلمَ لا نهاجر بالمعرض من مكان إلى مكان، لينشر الثقافة والعلم، ثم الهجرة الخارجية، ولا أقصد هنا الدول الإسلامية فقط، بل إلى كل دول العالم؛ ليشاهدوا عن كثب تلك الحقبة الزمنية، والإبداع السياحي السعودي، والثقافة العربية، وإرث الجزيرة العربية وتاريخها؛ ليطّلع العالم على تاريخنا وحضارتنا، وأزعم أنهم متشوقون للمعرفة، حريصون على تبيان الحقائق التاريخية، فتلك المعارض، أو المتاحف المتنقلة تثري الصورة الذهنية للمملكة، وتعيد صياغتها، وتضيف قيمة مضافة للحضارة والسياحة والتاريخ والإرث والثقافة السعودية.

تبقى نقطة مهمة لا تنتقص من هذا العمل الجميل المثقف الواعي، فهذا المعرض في مكان يندر أن تجد فيه "شربة" ماء، فما بالنا لو جهزنا ردهات خارجية للاستراحة وتقديم خفيف الأطعمة، مع وسائل ترفيهية للأطفال وصغار الشباب، بل والكبار، فجميعنا مع الصغار صغار، فالمكان يتسع لقضاء وقت طويل ممتع، فبجانب الجرعة الثقافية، تكون جرعة ترفيهية في الانتظار أيضاً، خاصة وقد بدأ العام الدراسي، وأظن أن الرحلات المدرسية سيكون لها نصيب من تلك الحصة التاريخية الترفيهية، وكذلك في أيام العطلات، وأدعو القائمين على المعرض بتكثيف الدعوة لحضور المعرض، لأنه حدث يستحق المتابعة والثناء على الجهد والإبداع.