لعل أكثر سؤال يدور بين الناس في مصر وغيرها الآن، إضافة بالطبع إلى أسئلة كثيرة أخرى حول الحالة المصرية: كيف تبخرت الشرطة بعد لحظات من صدور قرار حظر التجول مساء «جمعة الغضب»؟ «السلطة المطلقة مفسدة مطلقة» مقولة تجسد المشهد المصري الذي ضربته الفوضى بقوة في ساعات محدودة. المصريون تعودوا لسنوات على سلطة جهاز الشرطة المطلقة. فلا صوت يعلو فوق صوت الأمن. بداية من نيل الحقوق إلى التعيينات المهمة في جهاز الدولة التي كانت الموافقات الأمنية ضرورية لإتمامها حتى باتت وزارة الداخلية كأنها حكومة داخل الحكومة. تعدت مهام الشرطة كثيراً دورها المفترض في حفظ الأمن والإشراف على بعض الخدمات كاستخراج الهويات والإشراف على المنافذ الجمركية والمطارات والموانئ وتنفيذ الأحكام القضائية. تعدت الشرطة دورها الإداري لتمارس دوراً سياسياً وضعها في مواجهة مع الشعب. ظلت تتصدى للاحتجاجات الفئوية، تفرّق العمال المتظاهرين وموظفي الضرائب العقارية المحتجين وغيرهم من الفئات الاجتماعية الغاضبة على تنوعها. تراكمت احتقانات الشعب ضد جهاز الشرطة التي رسختها المعاملة السيئة التي كانت غالبة والحديث المتواتر عن حالات تعذيب وقتل في مقارها. ظلت التوصية من أي مسؤول أمني ضرورية لتسيير الأعمال في بلد انتشرت فيه «المحسوبية». وجاءت «جمعة الغضب» لتضع جهاز الشرطة في مواجهة فئات مختلفة محتقنة أضيف إليها شباب غاضب من بطالة «باتت سمة لا استثناء»، وكذلك جماعات سياسية أرادت أن تركب الموجة. باتت الشرطة في مواجهة جماهير غفيرة فلم تجد بداً من الفرار أمام جحافل الغاضبين الذين هالهم كمّ العنف الذي استخدم ضدهم، فقابلوه بعنف مضاد ليتحول عيد الشرطة في مصر إلى «نكسة» خلع فيها الضباط بزاتهم الرسمية وتركوا أسلحتهم وذخائرهم نهباً للبلطجية في مشهد يعيد إلى الأذهان هزيمة عام 1967 التي اصطلح على تسميتها «النكسة» حين انسحبت قوات الجيش المصري من دون تنظيم. مؤسسة الأمن «تبخرت» في ساعات وأحرقت مقارها ونهبت أسلحتها وهرب المساجين بعد السجانين، ليسود انطباع بأن هناك تواطؤاً لإحداث حال من الفوضى، قابلتها تبريرات بأن الجماهير كادت أن تفتك بأفراد الشرطة ومن ثم كان الانسحاب الحل الأمثل لتجنب مواجهة «دامية».
النتيجة: البلد بلا أمن والجيش يجاهد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. الرعب يسيطر على النفوس... فوضى السلاح لم تعد قاصرة على السيوف والسنج بل امتدت إلى الأسلحة النارية التي وجدت سبيلها إلى ايدي الصبية والبلطجية يواجهون بها لجاناً شعبية شكلها الأهالي لحماية ممتلكاتهم. فوضى حقيقية: سلب ونهب وعنف. نموذج مصغر من المشهد العراقي في ليلة سقوط بغداد لكنه خلا من قوات احتلال. «تونسة» على الطريقة المصرية. الاحتجاجات أثبتت أن الدولة كانت تعيش «في حالة رخوة» فتهاوت مؤسساتها خلال ساعات تحت وقع الاحتجاجات. وبعد أن بات الشارع منفلتاً وفي حال من الفراغ الأمني تتسارع خطواته في اتجاه الفوضى العارمة يسابق النظام المصري أيضاً لتطويق الموقف والإمساك بتلابيب الأمور. تعيينات وإقالات طالما طالب الشعب بها. مدير الاستخبارات العامة عمر سليمان نائب لرئيس الجمهورية وحكومة الدكتور أحمد نظيف إلى زوال ليحل محله وزير الطيران المدني في الحكومة المستقيلة الفريق أحمد شفيق ذو القبول النسبي في الشارع. الرئيس حسني مبارك بدا امس ساعياً إلى الإمساك بتلابيب الأمور. وظهر في التلفزيون الرسمي متوسطاً نائبه سليمان ووزير الدفاع والإنتاج الحربي المشير حسين طنطاوي وفي المشهد رئيس الأركان الفريق سامي عنان. لكن الفراغ الحكومي لا زال مستمراً، فالحكومة استقالت يوم السبت ولا تكليفات جديدة عدا رئيسها وسط حديث عن خلافات جمة تعيق تشكيلها. الأخطاء السابقة سببت «الانتفاضة» ولو تم تداركها لما آلت الأوضاع إلى ما هي عليه. «ا لخطوات الجديدة» التي تعهد بها الرئيس مبارك في إطلالته على الجماهير فجر الجمعة بعد خروج الأمور عن السيطرة تأخرت، فانتفض الشعب لاقتناصها ولم يعد حتى قانعاً بها. رموز النظام خصوصاً أمين التنظيم في الحزب الوطني الحاكم المستقيل أحمد عز طالما استفزوا الجماهير بإصرارهم على تحقيق تقدم ونمو لا يلمسه المواطنون، حتى باتت الهواتف المحمولة وانتشار استخدام الشباب لشبكات الإنترنت، الذي طالما تغنت به حكومة نظيف واعتبرته مقياساً للتقدم، وسيلة للانقلاب وتعبئة الجماهير لإسقاط النظام.
نقلا عن الحياة اللندنية