أصدر خادم الحرمين حفظه الله بعد عودته الميمونة من الرحلة العلاجية عدداً كبيراً من القرارات التاريخية الهادفة للتصدي للعديد من التحديات التي يواجهها المواطنون ورفع مستوى المعيشة لهذا الشعب الكريم. وكان من أبرز هذه القرارات تخصيص مئات المليارات من الريالات لمواجهة أزمة السكن التي يعانيها الكثير من المواطنين. وشملت هذه القرارات دعم موارد صندوق التنمية العقارية والبدء في تنفيذ برنامج عملاق لمشاريع الإسكان الحكومية. وتتضمن مشاريع الإسكان الحكومية بناء نصف مليون وحدة سكنية لإيواء ما لا يقل عن هذا العدد من الأسر التي لا تملك مساكن. وقد استبشرت ملايين الأسر السعودية بهذا البرنامج ورأت فيه أملاً في تحقيق أحلامها بامتلاك منازل تكفيها معاناة دفع الإيجارات التي بدأت في رحلة صعود قوية منذ عدة سنوات.
وبعد صدور هذه القرارات بدأت الجهات المعنية في الدولة بمناقشة كيفية تنفيذ هذه القرارات. ولتنفيذ هذه القرارات، كان لا بد من وضع لوائحها التنفيذية وتبني آليات تمويلها من قبل لجان بيروقراطية مختصة. ويتم تشكيل اللجان المختصة من ممثلي الجهات الحكومية ذات العلاقة بتنفيذ هذه القرارات من أجل صياغة ووضع هذه اللوائح. وتبدأ بعد ذلك هذه اللجان بعقد اجتماعاتها ومناقشة جداول أعمالها. وتمتد فترة مناقشة اللجان لأشهر وأحياناً لسنوات، وذلك بناءً على مدى كفاءة والتزام أعضائها وتوجهات الإدارات الحكومية التي ينتسبون إليها. وتتفاوت قدرات وإمكانيات وتوجهات أعضاء اللجان الحكومية، ولكن معظمهم يميل إلى التفكير النمطي الحكومي البيروقراطي والذي يتصف في كثير من الأحيان بميل كبير نحو تعطيل القرارات أو على الأقل تمييع تنفيذها. ويميل التفكير البيروقراطي الحكومي إلى المحافظة على الوضع الحالي، وقوة كبيرة في مقاومة التغيير من خلال البطء الشديد في تبني القرارات وتعطيل أي تغيير في أسلوب أو عمل الجهات الحكومية. كما يميل التفكير النمطي الحكومي إلى محاولة الحد من الإنفاق أو إبطاؤه قدر المستطاع، وذلك من خلال التفنن والإكثار من وضع القيود على الإنفاق وفي كثير من الأحيان الإمعان في تعقيدها. وفي النهاية يخرج عدد كبير من اللوائح التنفيذية بعد وقت طويل من القرارات مما يقلل من إيجابيات هذه القرارات، كما قد يؤدي تبني بعض البنود المدرجة في هذه اللوائح إلى تعطيل هذه القرارات بصورة كبيرة وحرمان عدد كبير من المستفيدين من فوائدها.
وتؤثر سرعة تنفيذ مشاريع الإسكان الحكومية المزمع إنشاؤها بقوة على فعالية الحد من أزمة السكن التي يعانيها الكثير من المواطنين. وكان الكثير من المواطنين يأملون في تنفيذ هذه المشاريع في مدة زمنية معقولة لتسهم في رفع المعاناة المعيشية لمئات الآلاف من الأسر وبأسرع وقت. وذكرت بعض الأنباء الصحفية أن بعض المسؤولين صرحوا بأن مدة تنفيذ مشاريع الإسكان في إحدى مدن المملكة ستصل إلى عشر سنوات. وأعتقد أن فترة عشر سنوات طويلة جداً لتنفيذ هذه المشاريع وغير مناسبة للتعامل بفاعلية مع أزمة السكن الحالية. وحتى لو تم الالتزام بهذه المدة، فهناك مخاطر إضافية من إطالة مدة تنفيذ هذه المشاريع فوق عشر سنوات مما سيقلل من جدوى مشاريع الإسكان الحكومي ويفقدها الكثير من بريقها. وسينتج عن البطء في تنفيذ مشاريع الإسكان الحكومي رفع تكاليف السكن ومعدلات الإيجارات التي ستؤثر على ملايين الأسر الأخرى والتي لن تكون محظوظة بما فيه الكفاية للحصول على مساكن من مواردها الخاصة أو مشاريع الإسكان الحكومية خلال فترة تنفيذ هذه المشاريع. فلو تم الاستعجال في تنفيذ مشاريع الإسكان الحكومية وقلصت مدة إنجازها إلى خمس سنوات فإن هذا سيضيف نصف مليون وحدة سكنية أو بمعدل يصل إلى مائة ألف وحدة سكنية في العام إلى إجمالي عدد الوحدات السكنية ألمملوكة لقاطنيها. وهذا سيخفض كثيراً من الطلب على الوحدات السكنية المستأجرة والأخرى مما سيحد بقوة من ارتفاع الإيجارات وأسعار الوحدات السكنية. أما تنفيذ مشاريع الإسكان الحكومية وتوزيعها على فترة عشر سنوات أو أكثر فسيرفع من تكاليفها على الدولة والمواطنين مع مرور الزمن كما سيقلل كثيراً من تأثيرها على أزمة السكن الحالية والتي قد تتفاقم مع مرور الوقت، وبذلك يقلل التباطؤ في تنفيذ مشاريع الإسكان الحكومية من منافعها وإيجابياتها.
ولهذا ينبغي دفع كافة الجهات الحكومية ذات العلاقة وبقوة إلى التخلي عن أساليبها البيروقراطية التي تعودتها وتسريع إجراءات تنفيذ مشاريع الإسكان الحكومي (وكافة المشاريع) ووضع اللوائح التنفيذية المناسبة والمحددة لأسلوب توزيع هذه الوحدات قبل الانتهاء من تنفيذ المرحلة الأولى من هذه المشاريع، لكي لا نفاجأ ببقاء وحدات الإسكان الحكومي خالية لسنوات طويلة بسبب عدم تبني معايير وآليات تمليك وتوزيع هذه الوحدات للمواطنين. وهذا ما حدث في مشاريع الإسكان الحكومية السابقة والتي ظلت لسنوات طويلة خالية من السكان. ويمكن اتخاذ العديد من الإجراءات التي ستساعد على التسريع من تنفيذ هذه المشاريع وخفض تكاليفها والتي من ضمنها دعوة كبار شركات الإنشاءات العالمية للمشاركة في تنفيذ هذه المشاريع، وإعفاء منفذي هذه المشاريع من بعض القيود مثل متطلبات برامج نطاقات للعمالة والحد من البيروقراطية الحكومية والتي تبدع في تعطيل الآثار الجيدة للقرارات والسياسات الحكومية.
نقلا عن الاقتصادية السعودية