ينتمي الإنسان ككائن اجتماعي لكيانات وأفكار متعددة، فهو منتمٍ بحكم الميلاد لأسرة، وحين يكبر قليلاً ينتمي لعشيرة أو قبيلة، ثم دين فوطن..
أما أسمى وأرقى انتماء والذي لا يصل إليه الكثيرون فهو الانتماء للإنسانية، فكلما كبر الإنسان واتسعت مداركه وزادت معارفه، اتسعت دائرة انتمائه دون أن يفقد ارتباطه بالدائرة الضيقة، أما إذا قلّت المعرفة، وضعفت الثقافة، فإنه يظل أسيراً لانتماء ضيّق يقيّده ويبعده عن براح الوطن وسعة الإنسانية.
..
فكلما ضاقت حلقة الانتماء زادت العصبية، وكلما اتسعت الحلقة، قلّ التعصّب وصارت الرؤية أكثر وضوحاً، ومن أبرز الأنشطة الإنسانية التي تكشف جوهر الانتماء هي الانتخابات، حيث يصبح الشخص أمام قرار بسيط لكنه ليس سهلاً، ففي البلاد الغربية التي أنتجت الديمقراطية النيابية عبر تطوُّرها الطبيعي، يمنح المواطن صوته لمن يراه أفيد للمجتمع كله دون النظر لهوية المرشّح، والغالب أن يمنح المواطن صوته ليس لشخص بل لبرنامج انتخابي يعتقد أنه الأصلح لمجتمعه، ويظل بعد ذلك مراقباً لمن يفوز ليعرف مدى التزام الفائز ببرنامجه الانتخابي، أما في بلاد الشرق والجنوب فالوضع ليس بهذه البساطة، فالديمقراطية النيابية بالنموذج الغربي لم تنبع من واقع وظروف تلك البلاد، كما لم تبلور نموذجاً مختلفاً للديمقراطية الكاملة، وليس معنى ذلك أن علينا رفض النموذج الغربي بل علينا أن ندرك أفضل ما فيه ونعترف بعيوب بلادنا، ومن أخطر تلك العيوب هو التصويت على أساس الانتماء للعصبية القبلية، فالمواطن يمنح صوته لقريب له، أو لصديق حتى لو كان غير مؤهل للدور المطلوب منه، ولا تختلف السعودية في ذلك عن كثير من البلاد التي تطبّق ذلك النموذج بشكل كامل، حيث تنتج برلمانات مشوهة، يحتل مقاعدها أشخاص غير مؤهلين لكنهم يملكون المال والعصبية القبلية التي توفر لهم قدراً كبيراً من الأصوات التي تضمن فوزهم في الانتخابات، ولو نظرنا قليلاً لآخر دورات البرلمان المصري أو السوري، لوجدنا أنها كانت تضمُّ عصابات لا نواباً للوطن، أما المملكة وعلى الرغم من تجربتنا السابقة في الانتخابات البلدية وما صاحبها من وعود حالمة للمرشحين وخيبة أمل إلا اننا ما زلنا امام إشكالية حقيقية، حيث يعد الانتماء القبلي العنصر الحاسم في تحديد النتائج، والخطير في هذا الوضع أنه يمثل انتخابات مقنعة لا يمكن إثباتها، فهو ليس مباشراً، ويضع ذلك على عاتق المرشحين والناخبين عبئاً ثقيلاً، فعلينا محاربة ذلك بكل قوة، ونشر الوعي بالانتماء الأوسع للمجتمع وأهمية تقديم مصالحه واحتياجات المواطنين على أي انتماء أضيق، ولنبدأ من الآن.. فلا وقت نضيّعه.
نقلا عن صحيفة اليوم