في ظل الربيع العربي، عادت الديمقراطية من جديد لتصبح حديث الناس، لقد كان الحديث حولها قديما مجرد تخيلات وتوقعات وآمال بلا واقع يسندها أو يتهيأ ليكون أرضا خصبة لتطبيقها. أما اليوم فقد صار للحديث واقع حي وأضحى للآمال معنى وشيك. هناك تساؤلان يتعلقان بديمقراطية الربيع العربي المرتقبة، هل تؤخذ الديمقراطية فقط بمعناه الحرفي والمباشر الذي يعني حكم الشعب في تلك الدول لذاته من خلال نواب وممثلين، أم أن ثمة مبادئ وقيما مطلقة وثابتة سابقة على اختيار الشعب، التي بفقدانها لا تعود هناك ديمقراطية؟ وبعبارة أوضح هل تبدأ من الصفر بحيث يقرر الناس طبيعة الحكومة أيا كانت فيكون المعول عليه فقط هو (اختيار الشعب لها)، أم أن هناك مبادئ مطلقة ليست خاضعة لاختيار الشعب من الأساس؟. مبدئيا، فإن اختيار الشعب خاصية مهمة لا يمكن التنازل عنها بحال من الأحوال، ولكن كيف نضمن أن يكون الاختيار حرا وواعيا وغير خاضع لأية تلبيسات آيديولوجية مسبقة (أي سابقة على ظهور الربيع العربي)؟
دعونا نعد للتساؤلين من أجل تمحيصهما والنظر فيهما عن كثب. ما المبادئ المطلقة والثابتة التي يشير إليها التساؤل الثاني والتي يرى أنها ضرورية بحيث لا يمكن التفريط فيها حتى لو أراد الشعب ذلك؟ في تقديري أن أهم هذه المبادئ هي الحرية والمساواة وما يلزم عنهما من مبادئ واستراتيجيات الدين ومنها اتخاذ موقف الحياد من كل الطوائف والعقائد والأعراق، فالدولة تعبير عن كل هذه الشرائح ومن الظلم أن تنحاز لطرف على آخر وإلا لانهار مبدأ العدالة والمساواة وبالتالي لانهارت الديمقراطية بكاملها.
قد يجيب البعض عن التساؤل الأول بنعم، فلنترك الشعب في تلك الدول يختار نظامه كما يشاء حتى لو كان نظاما غير ديمقراطي، ولنلاحظ هنا أنه يراهن على الديمقراطية من أجل اختيار نظام غير ديمقراطي، أي أن الديمقراطية قد تكون سبيلا لهدم الديمقراطية ذاتها، أليس هذا إذن دليلا على بطلان هذا الرأي؟! إن أي نظام غير ديمقراطي لا يمكن أن يجيء بالديمقراطية بل بالغلبة والقهر، أو كما يقول أحد الفقهاء قديما «من اشتدت وطأته وجبت طاعته». ولكن ما هي الحالة التي قد «يختار» فيها أغلب الناس نظاما غير ديمقراطي من خلال آليات الديمقراطية نفسها؟ أعتقد أنها الحالة التي يكون فيها هذا الاختيار غير واع وغير حر، بل خاضعا كما قلنا لتلبيسات آيديولوجية استمرت لعقود طويلة من أجل خداع الناس وتصوير الديمقراطية بوصفها منتجا غربيا وتنازلا عن الهوية ونحوها من مبررات. ولتفادي كل هذا يجب تأسيس تلك المبادئ (الحرية، العدالة، والمساواة) بشكل مسبق بحيث يبدأ الشعب -ليس باختيارها- إنما بالاختيار على ضوئها. ففي الحالات التأسيسية لا يكون لاختيار الشعب -خصوصا إذا كان الشعب لا يملك تجربة تاريخية- دور جوهري. فالمبادئ الدستورية المؤسسة مثلا لأمريكا أو فرنسا أو غيرهما من الدول الديمقراطية كانت أشبه بالمسلمات التي لا يمكن التصويت عليها أو التنازل عنها، لأنها هي الضمانة الوحيدة للحفاظ على الديمقراطية. صحيح أن هنا تلميحا بتجاوز رأي الشعب عند التأسيس مما يتعارض مع الديمقراطية ذاتها ولكنه تجاوز من أجل المحافظة عليها، لأنه هو الخيار الوحيد الذي دونه ستكون في طريقها للفناء كما أوضحنا عند مناقشة التساؤل الأول.
إننا -عربيا- أمام ما يمكن تسميته بـ (معضلة الديمقراطية). وهي معضلة مزدوجة بالنظر إلى دور الشعب. ففي البدايات التأسيسية وهي الحالات التي لم يكن للديمقراطية فيها أي حضور سابق، ينبغي اتخاذ خطوات صارمة لإقرار مبادئ الديمقراطية، والمشكل أن (الإقرار) ينطوي على إكراه وإجبار لكل الناس وهو يتعارض مبدئيا مع الاختيار والحرية. والمعضلة الثانية هي النقيض، بحيث نترك للشعب الحرية الكاملة في هذه المرحلة التأسيسية مما قد يؤدي إلى نسف الديمقراطية بالكامل. وبالنظر إلى أقل الضررين نجد أن تنازل الشعب عن (حرية الاختيار) من أجل إقرار المبادئ الجوهرية هو أكثر ضمانة للديمقراطية من الحرية التامة التي قد تنسفها. في الحالة الأولى نحن أمام نوع من الإلزام المبدئي لضمان الحرية، وفي الثانية نحن أمام حرية غير واعية قد تكون سبيلا للاحرية، وهذا ما أقصده بالمعضلة.
ومع مرور الزمن سوف تستبين الحقائق ويعرف الناس في تلك الدول ما هو الأصلح لهم، وهو شيء ما كان لهم أن يعرفوه لو تنازلوا عن الديمقراطية. هذا يجعل من الديمقراطية ميدانا مفتوحا تتمظهر فيه إرادة الشعب وقوته. وأما عند العودة إلى بعض تلك الأحزاب التي كانت ضد الديمقراطية والآن نراها تدخل اللعبة بقضها وقضيضها فإنها سوف تواجه هذه المعضلة التي ذكرتها، فهل سيتمسكون بمشروعهم السياسي القديم الذي يرفض مفاهيم الديمقراطية ذاتها كالحرية والمساواة وحياد الدولة وتداول السلطة الذي يفضي في النهاية إلى خيانة الديمقراطية، أو أن يعيدوا ترتيب أوراقهم من جديد ويتخلصوا من تلك الأجندات القديمة التي نشأت في ظل الحقبة الاستبدادية السابقة للربيع العربي؟ مشكلة هذه الأحزاب سواء القومية أو الدينية أو العرقية أنها تأسست على مبادئ تتضارب بشكل صارخ مع مبادئ الديمقراطية، فلو أخذنا مثلا مبدأ (حياد الدولة) لعرفنا أن الدولة يجب أن تقف موقف الحياد مع كل شرائح وفئات الشعب فلا تكون لها لغة رسمية ولا قومية خاصة، بل هي تعبير كامل عن كافة أشكال التنوع الاجتماعي. ولو أخذنا الديمقراطية الأمريكية بوصفها مثالا حيا فإننا سنتعجب إذا عرفنا أن اللغة الإنجليزية ليست هي لغتها الرسمية ولا المسيحية هي دينها الرسمي، لسبب بسيط وهو أن المواطنين ليسوا كلهم مسيحيين وليسوا كلهم ممن يتحدث الإنجليزية. فهل ديمقراطية الربيع العربي مستعدة لخوض هذه التجربة الصعبة والبدء في تأسيس واقع عربي جديد؟!.
نقلا عن عكاظ