ليس ضرورياً الذهاب الى عهد الفراعنة للتسليم بأولوية الدور الاقليمي والعالمي الخاص الذي مارسته مصر ولا تزال تمارسه منذ أيام الفراعنة وقد روى السياسي والمفكر اللبناني المرحوم تقي الدين الصلح أنه في زيارة له الى الزعيم الهندي الأشهر المهاتما غاندي سمع منه أن أعظم زعماء العالم في نظره هو المصري سعد زغلول راوياً أنه، أي غاندي، سكن في جنوب أفريقيا وأنه لمس حجم المبايعة الافريقية لزعامة سعد وأردف أن الظاهرة نفسها موجودة في الهند، كما في كل البلدان العربية ولا تحتاج الى تأكيد..
فكل دولة بحاجة إلى صدقية لا بديل عنها هي تلك التي لا تتأمن للدولة في هذا العصر إلا بالنهج الديمقراطي، مع أن الديموقراطية ليست النظام الأسهل.
وقد شارك خمسون مليون مصري أخيراً في انتخابات رئاسية وصفت بأنها الأولى من نوعها من حيث نزاهتها وتمثيلها منذ أيام الفراعنة. هذه الانتخابات تدل على أن أهم ما في الظاهرة أنها جاءت تشير أن لا دولة في مصر بعد اليوم تكون جدية إلا إذا كانت وليدة للإرادة الشعبية.
فكل ما لا يمر بهذه الإرادة لا مشروعية تاريخية له أي أن المشروعية التي لم يعطها الشعب فلا يمكن أن تكون صادقة ومصدقة.
لقد صارت الأولوية بين دول العالم العربي لبناء الدولة وتعزيز الاستقرار والشروع في بناء المؤسسات ليحل ذلك محل المؤسسات التقليدية والقبلية.
أما الآن فالحاجة الأولى هي تطوير المؤسسات الشعبية القائمة التي لعبت دوراً في تعزيز الاستقرار وتأمين النمو بمزيد من التشديد على عنصر الديمقراطية الذي لا مدخل لأحد على العصر بعد اليوم إلا مروراً بها. فكل دولة بحاجة الى صدقية لا بديل عنها هي تلك التي لا تتأمن للدولة في هذا العصر إلا بالنهج الديمقراطي. مع ان الديموقراطية ليست النظام الاسهل.
إن التحدي الأكبر أمام العرب هو إيجاد صيغة علاقة تجمع بين الحفاظ على هيبة وفاعلية الدولة واستقرارها من جهة وتعزيز الديمقراطية ومؤسساتها، ففكرة الدولة موجودة في أذهان العرب حكاماً وغير حكام ولكن ضرورة أخرى أمام العرب هي ثنائية الدولة والديمقراطية وقد آن الأوان لتجاوز مقولة إن الديمقراطية هي فوضى تهدد الاستقرار بينما تعدد الانقلابات في البلدان العربية كان العدو الأول للاستقرار ولفكرة الدولة وسمعتها في الخارج.
ومن المفارقات أن الدولة في لبنان لم تتعرض للانقلابات العسكرية بحجة المحافظة على هيبة الدولة، ذلك انه كان واضحاً أن الديمقراطية كانت ولا تزال في لبنان هي حامية الدولة والاستقرار.
ولقد أدرك آخر عربي في أبعد دولة عن لبنان أن الديمقراطية فيه هي التي صانته من حمى الانقلابات العسكرية التي نشأت هناك في البلدان العربية.
وليس هناك من عربي إلا وسجل لمصلحة سمعة لبنان أن الوطن العربي المتعدد حامي نظامه بتعدديته هو لبنان.
لم ينطل على لبنان ذلك الزعم المروج له في عدد من البلدان العربية أن الديمقراطية هي مسببة الفوضى فيه، وان العجز حيثما تكون الديموقراطية وأن الانقلاب العسكري هو الحامي من الفوضى والعجز، بل ظل متمسكاً بالمقولة المعاكسة فلا خوف على وطن إذا ما هو أخلص لنظام الحريات الذي حمى أصغر الدول العربية من دوامة التعاقب والتداول بين الثوب العسكري والدولة الفوضوية القاصرة عن الدوام والاستمرار.
ان التسرع في فهم معنى الكلمات طالما اوقعنا في التيه وضل بنا عن الطريق الصحيح، فالعربي تعني الصفة أو الهوية أو النهج الذي اختاره لنفسه ملتزم بنهج أو طريق أو صورة لمستقبل لم تكتمل صورته بعد ولكنه ان قام فهو ولادة جديدة لصورة الانسان العربي عن نفسه وبني قومه وما يريد قيامه هو وهم دفاعا عن نفسه وعن نفوس الآخرين.
لقد كان معنى العروبة في الماضي تذكيراً للعرب بنجاحاتهم وأمجادهم التاريخية مما لا يجوز أن يتوقف عن التغني به أي شعب من الشعوب. وكان واجباً على العرب أن يتمسكوا بمفاخر لهم كانوا بها في مقدمة الأمم، ولكن العروبة منذ الآن لا يمكن أن تؤدي دوراً إلا بقدر ما تحمل من المستقبلية لا الأمجاد التاريخية. فإما أن تأخذ العروبة عند كل عربي في هذا الزمن هذا المعنى بالذات فهو ما سيحسب لها أو عليها.
إن معركة المستقبلية الديمقراطية هي المحك. ولا يجوز بعد اليوم أن تبالغ العروبة بأخذنا الى الماضي بل عليها واجب واحد لا يجوز أن تتخلى عنه وهو واجب الشهادة للأمة العربية بأنها منذورة لا للوجود فقط بل للخلود أيضاً. وكل عربي واعد يدرك أن من سيشهد له أو عليه ذلك القدر من المستقبلية الذي لا غنى له عن أن يتوافر في حاضره.
هل نحن أمة للمستقبل أيضاً أم أننا نوع من الفرعونية الجديدة الذي جربته مصر فأرجعها الى الوراء بدلاً من أن يدفعها الى الأمام.
نقلا عن الرياض