تمر معظم المجتمعات العربية اليوم بحالة من عدم الاستقرار وتفشي بيئة داعمة للفوضى تحت مسميات عديدة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب. وتبين معادن الرجال (والنساء) في الأزمات، ويتسلق أشباه الرجال سلّم تلك الأزمات لتحقيق مكاسب شخصية يضفون عليها ظلما وعدوانا لباس المصلحة العامة.
في بيئات كهذه تتدنى مستويات الإنتاجية، ويصبح الحذر هو سيد الموقف، وتتعطل التنمية وإن بدت عجلتها ظاهريا تسير على نحو حسن. فالممارسات الضاغطة من المجتمع تحت التهديد والتلويح بالاحتجاج والتجمهر والتظاهر تعطل الرغبة في العمل وتجعل ممارسته مجرد رفع للملامة، وبدلا من أن يكون ممارسة مؤسسية مهنية يصبح مجرد مسكنات، واتقاء لردود أفعال غير محسوبة العواقب. وهذا لاشك يعتبر فيروسا قاتلا للإنتاج والجودة وتحقيق العدالة ويفت في عضد من يعملون على تطبيق النظام وسيادة القانون.
قد يتوقع المسؤول احتجاج موظفيه على بدء الدوام التاسعة صباحا، وينتظر مظاهرات واعتصامات تطالب بأن يكون بدء الدوام الحادية عشرة ظهرا، وقد يتوقع المدرس اعتصاما من طلابه لأنه يتشدد في الواجبات المدرسية، وقد يتوقع المحاضر في كلية الطب احتجاجات عارمة لأن الجثث في المشرحة تأتي من النيبال وليس من السويد، وربما خرجت مظاهرة لبعض المصلين يطالبون بتأخير صلاة الجمعة إلى ما بعد العصر بحجة أن الأجواء حارة صيفا في ديارنا العربية، وربما نتوقع تجمهرا وتجمعا لفصل المدير العام لأنه يطالبنا بالجودة في الأداء، وبعد غد سوف نتظاهر ضد البلدية لأنها لم تهيئ مكانا مناسبا للتجمهر. والخلاصة أن التجمهر والتظاهر والاعتصام أصبح في مخيلة البعض وسيلة وغاية في آن واحد.
مصالح البلاد والعباد لا تدار بهذه الطريقة، ولا يستقيم لها حال على هذا النحو:
لايصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا جُهالهم سادوا
تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت
فإن تولتْ فبالأشرار تنقاد
وفي هذا العصر أصبح السفهاء، والموتورون، وطلاب الثأر، ودعاة الانتقام، وأصحاب المصالح الشخصية والتنظيمية ومروجو الفتن يقودون الناس، ويستثمرون رغبة بعض الناس في تصديق روايات غير حقيقية، وبالتالي يقودونهم قيادة القطيع بكل أسف.
واليوم يصعب أن تجد من يصدق ذي سلطة فينشط الطامعون الجدد في السلطة على استثمار هذه الأجواء لإحداث الفوضى ومن ثم اقتناص الفرص للانقضاض على السلطة مستفيدين من المزاج العام المتوتر في المجتمعات.
والأدهى من ذلك أنه ظهر مبتزون لمن بيدهم السلطة وأصبحت تلك الفئات والأفراد التي تمارس الابتزاز تطلب بإتاوات من السلطات فإما أن تلبي مطالبي وتشتري سكوت أتباعي، وإما أن أحرك ضدك الرأي العام بالفتوى وإثارة الإشاعات والتلويح بأن المجتمع جاهز للتصديق.
أعتقد أن تجاوز هذه المرحلة الحرجة يأتي بالشفافية والحوار، وتعرية ذوي المصالح الخاصة والمبتزين والذين يصطادون في عكر الظروف غير المستقرة. كما أنه من المهم أن تطبق الأنظمة بشفافية وأن يحاسب الناس وفقا لإجراءات معلنة لا تسمح بانتشار الإشاعات التي تثير المجتمع وتؤجج المشاعر السلبية. كما أن عزل ذوي المصالح الخاصة في إثارة الفتن، والإبانة عما بينهم وبين مجتمعاتهم ودولهم من ثأر، وينتظرون الفرص ويتحينونها للانتقام، وتحقيق العدل وسحب بساط المبررات ممن يتربصون بالمجتمع ولا يهمهم مآلات الأحداث بعد الفوضى التي يثيرونها فهم يرددون قول الشاعر:
إذا مت ظمآناً فلا نزل القطرُ
فهو هالك بما اقترفه من مخالفات ولا يريد أن يهلك وحده وإنما يهلك كل من تبعه دون أن يهتز له ضمير.
والمؤسف أن سلبية العقلاء تتيح للسفهاء فرصاً ذهبية لاختطاف المجتمعات وتوجيهها التوجيه الخاطئ، ومن يراقب الشارع يجد حفنة هي الأعلى صوتاً تفرض أجنداتها على الأكثرية.
ومع ذلك فإن الحراك المتسارع الذي تشهده المجتمعات العربية سيأخذ مداه وعلينا أن نتعامل معه بصبر وحكمة.
نقلا عن الرياض