منذ فجر التاريخ اهتم الرحالة برصد الجوانب السياسية والاجتماعية للدول والمجتمعات، واهتم الرحالة الغربيون منذ قرون طويلة برصد الحالة الاجتماعية في شبه الجزيرة العربية في مختلف زواياها وأبعادها، حتى أصبحت بحوثهم الاجتماعية وكتاباتهم السياسية ووثائقهم المكتوبة والمصورة مصدراً لكثير من الدراسات والمعلومات.
وما يلفت الانتباه اليوم هو استمرار هذا الاهتمام وأخذه جوانب متعددة؛ فكثير من القادمين لدراسة قضية أو ظاهرة ما؛ هم بالتأكيد قادمون أيضاً للإجابة عن تساؤلات أخرى.
وقد شهدت المملكة العربية السعودية اهتماماً بالغاً في هذا الجانب منذ اللحظة الأولى لظهور ينبوع النفط فيها، مما يترجم أهمية هذه التحولات على صعيد المكان والزمان والإنسان بالنسبة للدراسات الغربية، وقد استفاد كثيرون من عملهم في المملكة في تلك الحقبة المهمة لرصد بعض هذه التحولات على مستوى المناطق والمدن التي عملوا بها.
وقد استمرت حركة البحوث في هذا الميدان حتى الآن، غير أن ما يؤخذ على بعض البحوث اليوم، اعتمادها على الأطر النظرية فقط، بل إن بعض ما يُكتب عن تاريخ الإنسان السعودي لم يكلف أصحابه أنفسهم للمجيء إلينا ليعرفوا مدى هذه التحولات واتجاهاتها؛ ولذلك من المهم تسهيل مهام الباحثين في هذه الدراسات كي يستقوا المعلومات من مصادرها؛ فبعض البحوث تتحدث عن المجتمع السعودي بسطحية.
لقد مر بالمملكة كثير من الدارسين والباحثين الغربيين الذين زاروها خلال الثلاثين عاماً الماضية لإجراء دراسات ترصد بعض جوانب هذه التحولات عن طريق إجراء دراسات اجتماعية وإنثروبولوجية، سواء عن طريق رصد الحركة اللغوية، أو فيما يخص الفنون والفلكلور، أو تلك التي ترصد بعض الجوانب الجديدة في المجتمع، مثل تلك التحقيقات التي سلطت الضوء إعلامياً على بدء الانتخابات البلدية، لمعرفة ما ستكون عليه التجربة لاحقاً.
إن مثل هذه الدراسات مهمة جداً في قيمتها العلمية والاجتماعية والسياسية على المستوى المحلي والعالمي، لما يبنى عليها من نتائج مهمة، ولذلك من الضروري أن يحظى الباحثون بمعلومات صحيحة ليبنوا عليها نتائج صحيحة، بغض النظر عن موافقتنا لها أو اعتراضنا عليها.
وعلى جانب آخر لدينا جهود أخرى تتمثل في الدراسات المحلية التي تحاول تلمس هذه التحولات بشكل أو بآخر، لكنها تعاني من مشكلتين رئيستين: الأولى هي ندرة الدراسات المسحية التي تتناول تحولات المجتمع وتطوراته، وهي نتيجة لقلة المتخصصين في علم الإنسان من جهة وقلة المراكز البحثية أو الأطروحات العلمية من جهة أخرى، أما الثانية فهي قلة ترجمة مثل هذه الدراسات إلى لغات أخرى لتبنى عليها الدراسات اللاحقة؛ مما يجعل الدراسة التي تتم على المستوى المحلي، رغم أهميتها، لا تلامس اللب في دراسة التحول الاجتماعي.
غني عن القول إن أهم تحول في تاريخ المملكة العربية السعودية هو اكتشاف النفط، إلا أن هذا الأمر لم يعد كافياً لدراسة ظاهرة التطور، وأعتقد أن هذا الأمر بحاجة إلى بحوث ميدانية لدراسته بدقة، ولا سيما أن المجتمعات حتى بداية التسعينيات الميلادية بعيدة عن بعضها البعض، فكان العالم شبه معزول عن بقية أجزائه.
أما اليوم فقد تغير العالم كثيراً، والسعودية جزء من هذا التغير، ففي مدة لم تتجاوز ربع قرن أصبحت التغيرات متسارعة جداً على المستوى المعرفي والثقافي والاجتماعي والسياسي، ولا سيما بعد ثورة عالمية هائلة في مجال الإعلام والاتصال؛ وهذا الأمر يعني أن الدراسات المحلية والعالمية ليست موازية لهذه التحولات والتطورات العالمية، ولم تكن كذلك مهتمة برصد كيفية التغير وكميته في المجتمع.
وعلى ضوء ذلك، يفترض الاهتمام بإنشاء مراكز بحثية متخصصة في الجامعات، ترصد مختلف التحولات الاجتماعية، كما يمكن أيضاً إنشاء اتفاقيات تعاون استراتيجية مع المراكز المتخصصة بإجراء الدراسات لرصد التغيرات الفكرية والسلوكية في المجتمع، وخاصة أن هنالك أمورا صغيرة قد لا نوليها اهتماماً، لكنها تدل دلالة قوية على توجهات المجتمع وممارساته، وما يشغل الذهن المجتمعي العام.
نحن نحتاج إلى توثيق ورصد كبير لتراث المجتمع في كل المجالات الثقافية، وأعني هنا الثقافة بمفهومها الإنثروبولوجي، لنستطيع بذلك استقصاء مكامن الضعف ومكامن القوة، والتركيز على ذلك من أجل صناعة جيل قابل للتطور الفكري من أجل بناء المستقبل.
نقلا عن الوطن