كنت بداية الأسبوع الفائت في محافظة الطائف ولاحظت أن هذه المحافظة مترامية الأطراف فسألت عن عدد السكان فقيل لي إنه يبلغ المليون نسمة وقد كنت قبل ذلك في محافظة الأحساء وأنا أعلم أن عدد السكان في هذه المحافظة يصل إلى المليون ونصف المليون وهي من حيث المساحة أكبر المحافظات. سؤالي هو لماذا لم تصبح هاتان المحافظتان مناطق إدارية حتى الآن؟ فبقاء مناطق كبيرة ومؤثرة دون أن تحظى بالزخم السياسي المناسب يؤخر التنمية المحلية ويساهم في الضغط على المناطق الكبيرة التي وصلت إلى مرحلة "التشبع" وأصبحت غير قادرة على تحمل المزيد من التوسع، خصوصاً السكاني. المسألة أصبحت ملحة وضرورية من أجل تحقيق تنمية محلية متوازنة والأمر لا يتوقف عند هاتين المحافظتين بل يجب إعادة التفكير في نظام المناطق الحالي والتوسع في تأسيس مناطق إدارية جديدة، فبلد مثل المملكة العربية السعودية يفترض أن يكون فيها ما بين 20 إلى 25 منطقة إدارية وليس فقط 13 منطقة، هذا طبعا إذا ما أردنا أن نحقق تنمية متوازنة لجميع مناطق ومحافظات المملكة بشكل يعيد ترتيب الاقتصادات المحلية ويجعلها فعالة أكثر ويخلق فرص عمل "محلية" لأن أغلب البطالة لدينا من "النساء" وهن بحاجة إلى فرص عمل في المناطق التي يسكننها.
الأسباب التي تدعوني لتشجيع تأسيس مناطق إدارية جديدة تبدأ من أهمية تنمية "الأطراف" والمناطق الأقل نمواً ولفت الأنظار إليها. العلاقة دائماً بين المركز والأطراف لا تكون متوازنة وهذا يعني أن وجود مناطق كبيرة سوف يقلل من تنمية الأطراف في هذه المناطق وسوف يجعل التركيز على مراكز هذه المناطق وبالتالي سوف تظل أطرافها بطيئة النمو. الفكرة هي أن يتم تقسيم هذه المناطق إلى عدة مناطق إدارية وبالتالي تتحول بعض الأطراف إلى مراكز فتكون التنمية المحلية أكثر اتزاناً. في اعتقادي أن تحقيق التنمية المحلية يبدأ من هذه الخطوة لأننا لاحظنا أنه ظلت التنمية لدينا متركزة في المحور الشرقي الغربي (الدمام- الرياض- مكة وجدة) لفترة طويلة حتى تأسس نظام المناطق وتشكلت الأمانات في المناطق فبدأت التنمية تأخذ منحى أكثر انتشاراً وارتبطت بالمعطيات المحلية وقلت الهجرة من المناطق المؤسسة حديثاً إلى المناطق الكبرى خصوصاً بعد تأسيس الجامعات المحلية. يجب أن نضع في اعتبارنا دائماً أن التنمية المحلية بحاجة إلى دعم سياسي وبالتالي فإنه يصعب تصور نمو اقتصادي في مناطق نائية دون تسليط الضوء عليها وإعطائها قوة سياسية تساعدها في عملية التطوير.
الأمر الآخر الذي يدعوني إلى التفكير في التوسع الإداري هو الميزانية الضخمة التي صارت تعلن عنها الحكومة كل عام، فهذا أمر يحث أصلاً على المناطق الأقل نمواً واستغلال الفرصة الحالية من أجل خلق مناطق اقتصادية جديدة. هذه الفرصة قد لا تتكرر في المستقبل ويجب علينا استغلال هذه الموارد المالية لخلق فرص عمل في جميع مناطق المملكة والنظام الإداري الحالي لا يساهم في خلق هذه الفرص على عكس لو كانت مناطقنا الإدارية أصغر مساحة وأكثر عدداً، فهذا سوف يزيد من فرص الأطراف المهملة في السابق كي تحظى بفرصة تنموية مناسبة. هذا سوف يحقق توزيعاً عادلاً لميزانية الدولة على جميع مناطق المملكة، وهذا هدف مهم جداً لأنه سوف يفتح المجال لفرص استثمارية واقتصادية جديدة في مناطق لم يفكر فيها أحد من قبل، وسوف يجعل كثيراً من السكان المحليين يعودون لمناطقهم وسيشجع الشباب على البقاء في أماكنهم وعدم الهجرة للمدن الكبيرة كما حدث في السابق.
يجب أن أؤكد هنا على أن تحقيق التنمية المحلية سوف يؤدي إلى تماسك المجتمعات المحلية وبقاء هويتها الاجتماعية والثقافية، ولا يمكن أن نتجاهل هذا الأمر الهام، فقد تخلخلت هذه المجتمعات نتيجة للهجرات المستمرة وأعتقد أنه آن الأوان للعمل على إعادة تماسك هذه المجتمعات، وهذا لن يحدث دون تنمية اقتصادية يسبقها إصلاح إداري. الفكرة تكمن في أن هويات المجتمات في المملكة مرتبطة بالمكان فلكل مجتمع شخصيته المكانية، وتنمية هذه الأماكن هي الضامن الأول لبقاء الإرث الثقافي لبلادنا. كما أنه سيكون هناك تسليط الضوء على المشاكل المحلية ومعالجتها، فكلما كان هناك تواجد إداري كلما كان هناك التزام اجتماعي وانضباط أمني.
ومع ذلك يجب أن أؤكد هنا أن الأمر ليس مجرد زيادة عدد المناطق بل هو مرتبط بمفهوم الإدارة المحلية، فالانتقال من "المركزية" إلى المحلية مسألة مهمة ولعل الإشكالات التي تواجهها البنية التحتية في العديد من مناطق المملكة ناتجة أصلاً عن الإدارة المركزية التي لن تستطيع مهما عملت أن تواكب النمو المتسارع الذي تعيشه مدننا وقرانا، وبالتالي فإن وجود مناطق جديدة يحتاج تبني سياسة الإدارة المحلية الكاملة، وهذا مطلب تحتاجه المرحلة الحالية والمستقبلية في بلادنا. وتعتمد هذه الإدارة على إعطاء المناطق صلاحيات أكبر في التصرف في موازناتها وحثها على التركيز على الاعتماد على مواردها المحلية والدفع بها إلى التخطيط المحلي والتكامل مع باقي مناطق المملكة. هذا لو تم سوف يشجع السكان على اكتشاف الإمكانات المحلية والتعامل معها وتوظيفها واستثمارها وسيشجع رجال الأعمال من كل مناطق المملكة على الاستثمار في المناطق البكر الواعدة.
نحن نعيش زمن "الفرص" و"الضغوط" في نفس الوقت فلدينا الموارد وبدأنا نتوسع على المستوى المحلي في التعليم العالي ولدينا الموارد البشرية المالية التي تمكننا من التوسع على المستوى المحلي وتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية كبيرة، لكننا نعيش ضغوطاً كبيرة أهمها النمو السكاني السريع الذي يتطلب تنمية اقتصادية كبيرة وتوفير فرص عمل للشباب خصوصاً في المناطق البعيدة عن المدن الكبرى، والحد من الهجرة الداخلية وتطوير البنية التحتية وتوفير السكن وغيرها من ضغوط تنموية ربما يساهم في معالجتها إصلاح نظام المناطق وتمكين الإدارة المحلية.
نقلا عن الرياض