اصفة الحزم، وإن كانت فعلا عسكريا يرد بالقوة على من يريد أخذ اليمن للمجهول، وهو مجهول لا تنقصه دلالات استقرائية تخبرنا أن نتائجه لن تخرج عن إشعال حروب داخلية ممتدة تقضى على ما تبقى لليمن من أركان الدولة، وعلاقات الجوار العربي لتصبح خندقا جنوبيا متقدما للأطماع الفارسية، التي تحاصر المنطقة العربية وتدمر مقومات البقاء لتصنع دول الطوائف وكيانات الضعف والتمزق والحروب الكارثية الأكثر فداحة في الألفية الثالثة.
إلا أن عاصفة الحزم أيضا، ستكون، ويجب ان تكون، مدخلا لفعل سياسي يتساوق مع نتائج وضغوط العملية العسكرية، لتعيد لليمن وجه الدولة بعد ان اختطفها الحوثي وجيش الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح.. لإخضاعها لأطماع سلطوية، وأجندات خارجية، وطموحات طائفية، في بيئة يعيث بها الفقر والجهل، ولتقع في أتون تدهور أفدح في علاقاتها مع دول الجوار، وصراعاتها الداخلية على رماح الطائفة والهوية المذهبية.. وهو ما لم يشهده اليمن على هذا النحو في تاريخه الحديث.
للحروب أثمان باهظة.. إلا أنها إذا فرضت فلابد مما لابد منه. والصراع والتدافع بين البشر سنة كونية.. فما بالنا بمن يريد ان يسيطر على شعوب بأكملها في لحظة ضعفها أو ما اُعتقد أنه ضعف.. وهو يطمح لإعادة رسم خرائط هذه المنطقة عبر استدعاء الطائفي الذي مزق الكيانات وأذكى العداوات وكرّس الكراهية بأبشع صورها.. حتى الاندفاع للقتل على الهوية المذهبية!!
عاصفة الحزم يجب أن تعلمنا الكثير.. وهي تفعل.. وكل يوم يظهر أثر جديد لابد من قراءته واكتشاف أبعاده واستخلاص دروسه.
إنها تقول: هذه مصالحكم وشعوبكم ومصادر حياتكم.. أنتم فقط من يقوى على الدفاع عنها والذود عن كياناتها.. إذ يمكن للدول الصديقة أن تساعد لكنها لن تقاتل من أجلنا.. علينا أن نقلع الشوك بأيدينا، ونستفيد مما لدى الآخرين من عناصر القوة وتوظيفها في مشروع حماية شعبنا ومستقبلنا ووطننا.
المملكة العربية السعودية، ليست دولية صغيرة أو فقيرة تعجز عن حماية نفسها. وليست دولة بلا كفاءات وإمكانات كبرى. إلا أن الأمر يتطلب اكتشاف المزيد من فرص تقوية الذات. وليس مثل الأزمات أو ظروف المواجهات المصيرية ما يكشف عن مصادر الضعف أو الخلل لمعاودة البحث في وسائل إصلاحه وتقوية عناصر مواجهته.
إن مشروع بناء قوة عسكرية ضاربة تحول دون أطماع الطامعين ومخططات الأعداء وأحلام الحالمين بتمزيق هذا الكيان إلى دويلات تتقاتل على الوجود بعد فقد الموجود، هو الأولوية في عالم لا يعترف سوى بالأقوى.. الأقوى تدافعا لحماية مصالحه وكيانه، لا الأقوى عدوانا وانتهاكا وأطماعا. والذين يعتقدون أن بلادنا أرض الصحراء والجمل والنفط الرخيص فقط.. هم واهمون.. فخلال عقود بنيت قدرات بشرية ونمت أجيال جديدة وتميزت كفاءات وطنية في مجالات علمية دقيقة.. أي أن الطاقات البشرية تتكثف نواتها وحضورها في مختلف التخصصات والقطاعات. كل ما علينا أن نوظف ونعمق هذا الحضور الوطني ليضيف الكثير في مسار بناء الذات، القوية بنفسها والممانعة بذاتها.
الصناعات العسكرية، أولوية في مرحلة أصبحت القوة مصدرا للبقاء، والجيش الكبير والقوي المدرب والمستعد للقتال، له أهمية لا تقل عن صناعة السلاح أو جلبه من مصادر كثيرة.. والتكنولوجيا العسكرية تطويرا وصناعة أصبحت استراتيجية مهمة وحاسمة.. ولدينا في قطاع البحث والتطوير ما يكفي للبناء عليه والإنفاق عليه بسخاء فهو الضرورة القصوى اليوم.
إن كل تنمية وصناعة واقتصاد لا يترافق مع منظومة أمنية متماسكة وقوية.. لا يكمن حمايته أو الدفاع عنه. المسألة هنا ليست مسألة إنفاق فقط. إنها رؤية واستراتيجية وخطة تنفيذية، فكما هي مرتبطة بإعداد الكفاءات والقدرات الوطنية التي تتمتع بمهارات القتال، ومهارات التطوير.. فهي أيضا مرتبطة ببناء منظومة صناعية عسكرية داخلية توظف عوائد الصناعة العسكرية في بنية العملية الاقتصادية. وكل هذا يجب أن يكون ضمن استراتيجية يجب أن تحظى عند تنفيذها بالمتابعة الدقيقة ضمن شروط زمنية لا تعرف التباطؤ والاسترخاء.
وإذا كان الشاعر القديم يقول:
جزى الله الشدائد كل خير
عرفت بها عدوي من صديقي
فعلينا أن نرى المزيد من الفعل السياسي الذي يعيد صياغة العلاقات مع الجوار والأصدقاء على نحو تكون فيه مصالح بلادنا فوق كل اعتبار. عندما تتحول الأذرع الإعلامية في بعض البلدان العربية، ممن دعمتها السعودية بمليارات الدولارات، وأقالتها من عثرات اقتصادية كادت تودي بها.. فهل يكون الجزاء إلا من جنس العمل. المؤسف أن المملكة تتعرض لهجمة إعلامية شرسة من بعض الأقربين، بعد أن فاجأت أولئك بقدرتها على بناء تحالف متماسك، للدفاع عن نفسها وعن اليمن المستهدف وعن بلدان الخليج العربية.
لا أحد يرفض تقديم المساعدات الخارجية، ومبرراتها كثيرة، إلا أنها يجب أن تخضع لسياسة حسم المواقف.. خاصة في هذا الظرف العربي.
كما أننا نتطلع إلى أن تكون بلادنا في مقدمة دول المنطقة القادرة على صناعة مستقبل تؤمنه قواها العسكرية وقدراتها الاقتصادية.
سياسة الحسم، ضرورة لتعزيز توجيه مصادر القوة والمال حيث يجب أن تكون. كما أن سياسة الحسم ضرورة، لتظل قضايا الداخل أولوية، فلا أكثر أهمية من جبهة داخلية متماسكة.. فالحصون المهددة من داخلها هي الأكثر عرضة للاستجابة لتأثير الخارج ومؤامراته. سياسة الحسم، تتطلب حسم ملفات الداخل لصالح تماسك الوطن وتكاتف تكويناته ودرء أخطار الانقسام بين جماعاته. كما أنها ضرورة لتوجه الإصلاح الداخلي بما يحفظ لهذا الكيان قوته ومنعته، حتى لا تكون بعض قضاياه الداخلية معولا يستخدم لإحداث الخلل في بنيته ليسهل إرهاقه.
إن الاوطان كالأجساد.. تتعرض يوميا لفيروسات كثيرة، إلا أنها تموت على أعتاب الممانعة القوية الداخلية للجسد.. إلا أن الجسد الذي يعاني الضعف في بنيته الداخلية وهشاشة قدرته على استيعاب تلك الموجات من الفيروسات سيكون طريحا بعد حين.
وبناء ممانعة الداخل لتلك الموجات من الفيروسات القاتلة إنما يتطلب تقوية خلاياه، وتحفيز نظام الممانعة داخلها، حيث لا إمكانية لتنصيف تلك الخلايا سوى عند إصابتها بالعدوى.. ولا سبيل لبناء جسد قوي متعافٍ إلا من خلال اعتبار كافة تلك الخلايا هي الجسد، أي هي الوطن.
كل أبناء الوطن خلايا في جسد واحد. وإذا كانت معافاة فهي الوحيدة القادرة على صد تلك الفيروسات التي لا يتوقف هجومها
نقلا عن الرياض