استوقفني تحذير عميق عبر مقطع يوتيوبي صغير للأميرة ريما بنت بندر بن سلطان ذي طابع بيداغوجي تربوي وتهذيبي لفتت فيه إلى خطورة الميديا بمنصّاتها المختلفة التي تلتهم أوقاتنا وتعزلنا عن فلذات أكبادنا فتقول: «أننا نعيش اليوم في مجتمع غير مترابط؛ نحن متواجدون على الإنترنت والتويتر والفيسبوك، نحن نتقرّب هذه الآلات ونترك الناس المتواجدين معنا في نفس الغرفة. وتتساءل: كم شخصاً هنا رافعاً جوّاله وينظر صورتي من خلال كاميرا الجوال؟ ..أنا هنا.. هذه السيدة هنا.. ما الذي تفعلونه؟ إذا أردت أن تشاهدني من خلال الجوال أؤكد لك، ستجد هذا اللقاء على اليوتيوب. لنتفكّر في هذا. وسنعلّم أطفالنا الآن يخوضون غمار الحياة وهم يفتقرون للتواصل إذا كانت تجاربهم في الحياة ينقصها التواصل ثم أتى لهم تواصل عاطفي وفكري؛ هل تتوقّع أن هناك من يجذب الطفل أكثر من هذا؟ وبقلب الأم الرؤم المُشفِق تدعو الآباء والأمهات: اجلسوا مع أبنائكم وقت العَشاء، أغلقوا جوالاتكم وتحدثوا معهم.. إلخ هذه الدعوة.
إنّ راهنية هذا التحذير وأهميته تتبدّى لنا مع كل لحظة نشهد فيها جنوحاً فكرياً أو أخلاقيّاً لبعض الشباب والشابّات ممّن يقع تحت براثن أفكار دوغمائية وسلوكيات منفلتة؛ بل يصل الأمر ببعضهم أن يغدو نهباً لأفكار متطرّفة كالداعشية أو السلوكيات المنحرفة؛ والأخطر من هذا أن يصبحوا أدوات رخيصة في أيدي الأعداء لاستغلالهم لأهداف ضد بلدانهم بعد أن يتم استغلال حاجاتهم بعد هروبهم لتنفذ أجندات غاية الانحطاط والإساءة والسفالة بعد أن كان ينتظرهم مستقبل زاهٍ ومشرق في بلادهم التي لم تبخل عليهم بما يضمن حصولهم على أرقى تعليم وفرص ترقّي وعمل يساهم في بنائهم على المستوى الشخصي وكذا بناء أوطانهم.
إنّ هذه الدعوة التي أطلقتها الأميرة ريما تلفت بشكل واعٍ وحصيف إلى أهمية التحليلات الاجتماعية والنفسية التي تذهب بعداً في تصوّر وإدراك أهمية الكيان التاريخي والإنساني للأفراد باعتبار أنهم امتداد تاريخي لثقافتهم ونتاج لها؛ وهذا ما يفسّر سلوكيات هؤلاء الأفراد سواء كانت سلبية أو إيجابية؛ وهو ما يتماهى مع رأي للمفكر العربي فهمي جدعان الذي يشير دوماً إلى التاريخية الثقافية للفرد والبرمجة الوجدانية المبكّرة. ففي الحالة الأولى يرى أن الثقافة التاريخية تنتج أبناءها، ومن بين هؤلاء من يوجّهه حظّه أو ظروفه إلى الوقوع في براثن أفراد أو دعاة أو أحزاب أو جماعات أو أُسرة أبوية تمثّل التجربة التاريخية بعيون العنف؛ فيذهب هؤلاء في هذه الطريق، ويضيف جدعان: وفي الحالة الثانية تقوم البرمجة الوجدانية المبكّرة بتشكيل الشخصية وتوجيهها في هذه الطريق أو تلك. وبلغة تستشعر الخطر المحدق يقول: ليس ثمّة أخطر من مرحلة الطفولة والفتوّة، أو الصِّبى؛ فيها تتشكّل الشخصية الفردية و»الأنا» العميق، وفيها يتحدد النزعات الانفعالية والعاطفية الأساسية التي تحكم المستقبل؛ لا الفردي فقط، إنما أيضاً الجمعي. لذا كانت «التربية المبكّرة» و»الثقافة القاعدية» الصحية التداولية هي الضامن الأساسي لنمو مجتمع سليم طبيعي، «غير داعشي».
إنّ الحديث عن الشباب لا يفتر؛ والدراسات السوسيولوجية لا تني توليه الصدارة من أولوياتها باعتبار هذه الفئة بما تمثله من أهمية على المستوى الديموغرافي كونها تشكّل الفئة الأكثر رجحاناً في الحضور وفي حجم التحديات المحدقة بها، لا سيما وأنّ ظاهرة الانفتاح والانفجار المعلوماتي خلخل الكثير من البِنى الفكرية والاجتماعية وبات النسيج المجتمعي والهويّاتي عرضة للتحلّل والذوبان؛ في حين أن كل مجتمع يراهن على شبابه ويعتبرهم رأسماله الرمزي والفعلي في الوقت نفسه، كونه المؤهّل لبناء المستقبل وقيادة التغيير.
من هنا فإنّ ثمّة قصوراً واضحاً في الدراسات التي تعنى باستراتيجيات الشباب التي من شأنها رسم خارطة طريق واضحة تجعلهم قادرين على مجابهة المستقبل بعتاد معرفي وتكويني وبنائي إن على مستوى الفكر والثقافة أو التأهيل العملي خليق بالتعاطي مع الانفجار المعرفي وتسارع المتغيّرات المستقبلية على كافة الصُّعد.
يعاني غالبية أفراد المجتمع -لا سيما فئة الشباب- من هشاشة معرفية وذهنية وثقافية فضلاً عن الفراغ العاطفي والأنطولوجي»الوجودي» الذي يجعل منه لقمة سائغة للأفكار الراديكالية المتطرفة؛ والرخاوة الفكرية التي يتولّد عنها ضعف في الانتماء والجانب الهويّاتي ما يجعل استقطاب هذه الفئة ميسوراً وفي متناول الأيدي.
ومما يلفت النظر أنّ ثمّة فقراً على المستوى البحثي والاستقصائي لدراسة وبحث هذه الفئة من قبل مراكز البحوث والجامعات التي تعد حاضناً فكرياً لها؛ أو هكذا يفترض منها؛ وهو ما يفسّر حالة الفراغ الذهني والفكري والعاطفي لغالبية الشباب، وبالتالي غابت ثقافة الإنجاز والنجاح والمفهوم الإيجابي وثبات وقوة الصحة النفسية لهذه الفئة.
ولعل متابعة ما يحدث من جنوح وانفلات وانسلاخ أحياناً هوياتي لبعض الشباب أو الشابات -على ندرته ولله الحمد- يؤكد على ضرورة إعادة رسم الاستراتيجيات الخاصة بالشباب وبما يضمن تجذير وعيهم بمتطلبات المرحلة الراهنة بكافة تحدياتها وتعقيداتها وتربّص أعداء بلادهم بهم لقناعتهم بأنهم هم عتاد المستقبل وقادة تغييره وتطويره ونمائه. والأمل يحدو كل محب ومخلص لوطنه العظيم أن ينهض الشباب بمسؤولياته وأن يتعامل مع التحديات المحدقة به وبوطنه كفرص عظيمة للانغراس في هموم بلاده وخططها وبرامجها ومشروعاتها التي تستهدف خير ونماء ورفاه الجميع وتحقق شرطها الوجودي الذي ينأى بها عن السلبية والتخاذل والانكفاء والاستخذاء حيث لا مكان للكسالى وهشّي الولاء والانتماء.
نقلا عن صحيفة الرياض