البدوي ليس له مكان؛ الأرض كلها مكان له. والزمان مرتبط بالمكان، فالبدوي لا يملك ذاكرة زمانية ولا مكانية.. إنه لا يملك ذاكرة طويلة المدى.. فهو كالنباتات والأعشاب الحولية السريعة المترددة بين الظهور والخفاء.. كالزوابع المفاجئة. الذي ليس له مكان محدد ولا زمان محدد تكون الأمكنة كلها له، والأزمنة كلها له. إن ذاكرته ــ إن وجدت ــ غير خاضعة للرزنامة «الحضرية» الهندسية الصارمة.
البداوة تتنافى مع الأسس الصلبة والثابتة ثبات البنيان والجسور وأعمدة الإنارة. إن ذاكرة البدوي مجرد طلل؛ دمن بالية وأثر دارس. «الأثر» ــ حسب جاك دريدا ــ مفهوم تفكيكي؛ إنه تعبير عن الحضور والغياب معا؛ عن النقيضين. البدوي الرحال كالسيل الذي لا يمكن أن يكون مستنقعا ملوثا لكثرة الركود.
الفيلسوف البدوي مصطلح يلقب به «جيل دولوز» الذي لا يمكن «تبويبه» و «فهرسته» ! لقد سئم هذا الرجل من مسار الفلسفة التاريخي الطويل فاخترق الحدود والفواصل وارتحل إلى أرض الله الواسعة يحمل على ظهره بعض العتاد البسيط؛ معاول وأزاميل للحفر والنحت.. يحملها أنى اتجه ليصنع ثقوبا في تلك الجدران السامقة التي تحجب رحابة الكون.
كتب دولوز في كل فن وعلم، كالموسيقى وعلم النفس والفلسفة والأدب وغيرها، ولم تمنعه الحدود المرسومة بين هذه الفنون. إنه يرفض التصنيف والانزواء في ركن واحد، فتراه يتسلل من إقليم إلى إقليم ومن هضبة إلى هضبة ومن مسطح إلى مسطح. كل كتاب يكتبه لا علاقة له بما قبله وبما بعده.. إلا علاقة «الأثر» : أن بدويا مر من هنا.
ليس أقسى على قلب البدوي من الإقامة الدائمة والسكنى بين الجدران. فهو يسير حياته كلها مارا على «القرى» والعمران. يسجل ملاحظاته بسرعة على الورق فيتركها نهبا للريح ويمضي باحثا عن مكان آخر. لا تحفظ ذاكرته سوى أثر غامض ومبهم وهش. يمر الفيلسوف الرحال بقرية الموسيقيين فيتوجسون منه خيفة.. يحاولون طرده لكي لا يهدم الأسس المتوارثة في لمحة عين. ويمر على قرية الأدباء فيرفعون عقائرهم بهجائه وذمه. ويمر على علماء النفس فيصمونه بالجنون. إنهم لا يقدرون على طرده، فهو يطرد «ذاته» باستمرار. ليست له «ذات» سوى السراب الذي أمامه والوهم الذي يدفعه نحوه.
يقول ميشيل فوكو «في يوم ما سيصبح هذا العصر دولوزيا» ؛ أي سيعود البشر إلى البداوة والارتحال. لن تكون هناك حواجز وحجب وأقاليم مغلقة. سيلتقي الكل على الأرض الخالية من الأخاديد «الجيوسياسية». وها هي ذي الثورة التكنولوجية تدنو بنا من العصر الدولوزي. لقد أعادت هذه الثورة ترتيب الزمان والمكان التقليديين بصورة تسمح بالارتحال والتواصل.
لم يعد البدوي مثيرا للسخرية والتندر كما كان في السابق. يذكر ابن خلدون ساخرا أن البدو كانوا يهدمون جدران البيوت المهجورة ويصنعون من حجارتها أثافي لقدورهم. «لماذا لا يسكنونها مثلا ؟!» . هكذا يتساءل ابن خلدون في سره. إن هوية البدوي مرتحلة مثله، لا تستقر ولا تثبت، لذا تراهم يكرهون الجدران المغلقة وحجارتها المتناسقة. وكان من سماوة العراق بدوي يقول لما زار سوق البصرة:
«دستية لم تأكل المرققا ** ولم تذق من البقول الفستقا»..
فسخروا منه إذ جعل الفستق من البقول. ألم أقل إنه يكره التصنيف والتبويب والفهرسة
نقلا عن عكاظ
- اكبر سجادة زهور تجذب زوار مهرجان الورد الطائفي
- “تقويم التعليم” تعتمد 3 مؤسسات تعليمية و42 برنامجاً أكاديمياً لنتائج شهر أبريل 2024م
- مجمع الفقه الإسلامي الدولي يثمّن بيان هيئة كبار العلماء في المملكة بشأن عدم جواز الحج دون تصريح
- مبادرة لرعاية المواهب الشابة وتعزيز صناعة السينما المحلية
- إبرام أول صفقة بين جامعة أميركية مرموقة وطلاب مؤيدين للفلسطينيين
- المعهد الوطني لأبحاث الصحة يطلق مبادرة أبحاث الأوبئة والتقنية الحيوية
- “تعليم جازان” يحقق المركز الأول في برنامج الأولمبياد الوطني للبرمجة والذكاء الاصطناعي
- الفضاء السعودية تنشئ مركزا عالميا لمجالات الفضاء بالشراكة مع “المنتدى الاقتصادي العالمي”
- فوز باسم خندقجي بالبوكر هو انتصار لصوت الأحرار وللرواية الفلسطينية
- السعودية تستضيف النسخة الـ28 لمؤتمر الاستثمار العالمي في نوفمبر القادم
الفيلسوف البدوي
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.alwakad.net/articles/71172.html