لو لم يكن للسلطات التشريعية والقضائية والتشريعية استقلال في كينونتها وفق تقنين دقيق لما أمكن للنظام الغربي أن يستأثر بالإعجاب، وأن يتحول لعنصر ثابت ودائم في طروحات النخب العربية لاستنساخ التجربة. سبب آخر لتوهجه هو في وجود السلطة الرابعة مجازاً، وهي الصحافة أو بمعنى أشمل الإعلام بوسائله وأدواته وما تصل إليه أذرعته الناطقة والمكتوبة والمرئية والتفاعلية، والتي تلعب دورًا مهماً في التأثير على توجه وقناعات المجتمع.

طبعاً المراد هنا ليس مدحاً لطرف وذماً لآخر، بل وصف لواقع مازلنا نشهده ونلمسه. الإعلام الغربي بما يحتويه من أجهزة ومؤسسات مختلفة عادة ما يكون مستقلاً عن تأثير السلطة، وإن كان لا يعارضها أو يوافقها على الدوام، بقدر ما ينزع إلى الموضوعية منسلخاً من هيمنة هذا الحزب، أو شعارات تلك الحكومة. بعبارة أخرى الإعلام هو لسان المواطن وضميره في آن واحد. هذا لا يعني أن وسائل الإعلام هناك حيادية بالمطلق، أو أنها لا تتأثر في بعض الأحيان بعوامل أخرى، بل يحدث وهو أمر طبيعي لأن المسألة برمتها نسبية، ومع ذلك فهذه الصحيفة أو تلك لا تنفرد بما يحلو لها فتقفز من فوق الأسوار دون رادع أخلاقي أو قيمي، بل تظل محكومة بضوابط مقيدة. ولذا حين تتجاوز الصحافة الخطوط المتعارف عليها، يتدخل القضاء ليقول كلمته ويضع الأمور في نصابها.

ولأننا نعيش في ظل فضاء سبراني كسر القيود ودفع إلى تلاقح الثقافات، تجد هناك من ينتقد هشاشة الإعلام الرسمي العربي الذي لا تعرف قواميسه إلا مقولات ومستهلكة، فضلاً عن اهتمام مفرط بالشكليات، مع تناس متعمد للقضايا المحورية المهمة، وابتعاد عن النهج الموضوعي والتحليل المعرفي. وما زاد الطين بلة لم تتوقف الأمور عند هذا الحد بل تسارع وتيرة التحولات جعل الساحة يقطنها عدة لاعبين آخرين فهذا المتلقي بات صانعاً للخبر ومشاركاً ومحللاً للحدث، أي أن المسألة لم تعد إعلاماً تقليدياً بل جديداً بكل ما تحمله هذه العبارة من معنى، لينتج عنها تواصل غير مسبوق، وبالتالي الهيمنة على عقل المتلقي.

وفي خضم المتغيرات مازال معظم الإعلام العربي بمؤسساته المتعددة يعاني من التسييس، لالتزامه بالخط الرسمي سالكاً النهج التبريري بصرف النظر عن قبول أو رفض الرأي العام ما يدفع المتلقي للبحث عن مصداقية الخبر وحقيقة المعلومة في مواقع أخرى.

من الطبيعي أن يدفعنا الحديث هنا لمقاربة تركيبة النظام الغربي على سبيل المثال، الذي يمتلك قدرة التوازن، وهذه الميزة تعني في رأي كاتب هذه السطور النظام المؤسسي، كون القرارات الصادرة عنه لابد لها وإن مرت بمراحل سابقة ضمن مسار تشريعي وقانوني يؤدي في نهاية المطاف لتلك المخرجات التي نراها على شكل تشريعات وقوانين. في حين أنه في عالمنا العربي، تلحظ أن الإعلام لا يملك القدرة على الوقوف أمام مؤثرات كالسلطة والعادات والأعراف ومحدودية سقف الحريات في المجتمعات العربية، ما أعاق دور الرسالة الإعلامية في انتقاد أداء الحكومات، وتحقيق تطلعات الشعوب، والاقتراب من نبض الشارع وهمومه.

ربما كان هذا أحد الأسباب في التراكمات المزرية التي علقت بالخطاب العربي السياسي والإعلامي على حد سواء، لأسباب تعود إلى طبيعة النظام العربي وبنية خطابه المسيّسة. ولذا فالمواطن العربي مازال يأمل أن يصحو إعلامه الرسمي من سباته وينتقل إلى مستوى المسؤولية بطرح يستند فيه إلى الشفافية والموضوعية والمهنية وبما يجعله قائماً بدوره الرقابي كسلطة رابعة وفاعلة تحقق التوازن بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية). فهل بإمكان الإعلام العربي الرسمي بلورة تلك الصورة لاسيما في ظل تواجد وسائط التواصل الاجتماعي التي صارت تمدنا بكل شيء دون حواجز أو قيود؟ هذا يعتمد في المقام الأول على مدى القابلية لدى الأنظمة السياسية ووسائل إعلامها التقليدية في استيعاب التحولات والتعاطي معها برفع سقف الحريات، من أجل مواجهة التحديات والتأقلم مع المتغيرات عوضاً عن الارتهان للمسلّمات، فاللاعب في الساحة لم يعد إعلاماً تقليدياً البتة.. أليس كذلك!