في المشهد السعودي هناك انحسار للموضوعية في تناول القضايا والمشاريع والقرارات الوطنية، ليتفاوت الطرح من النقيض إلى النقيض بتطرف واضح، فمن الرضا عن كل شيء وكأننا بلغنا حد الكمال والتمجيد للمشاريع والتصفيق ببلاهة حتى لو كان ذلك المشروع حديقة صغيرة في أحد أحياء المدينة، إلى النقيض لذلك تماما في عدم الرضا عن كل شيء بنظرة سوداوية مغرقة في التشاؤم؛ ليوصم المجتمع بالتخلف الذي لا يرجى الانفكاك منه وكأننا قوم لا نكاد نفقه قولا ولا نجيد التفكير ولا نحسن العمل! هذا التطرف يضعف جهود التنمية ويجعل الحوار حوارا فكريا مؤدلجا لا طائل من ورائه. فهذه المقالات والكتابات والأخبار والتصاريح الصحافية مشبعة باللمز ومتخمة بالاحتقان والكراهية، مرة بالتلميح ومرات بالتصريح هدفها وغايتها تسطيح آراء الآخرين وتفنيد حججهم وإضعاف موقفهم لا لشيء سوى الانتصار للنفس والإعلان عن الذات، وفي هذا الضجيج الإعلامي تغيب المصالح العليا للوطن ولا يلتفت إلى ما ينفع الناس ويعالج قضاياهم ومشاكلهم فتختلط الأولويات. الوضع التحاوري في المجتمع يمكن تصويره كمن أراد أن يكون له أطول مبنى في الحي فعمد إلى هدم ما حوله بدلا من أن يجتهد في إطالة بنائه! هناك سيطرة للتفكير السلبي واعتقاد بأن الربح لا يكون إلا بخسارة الآخرين، ومنبع ذلك الأنانية وضيق الأفق والانغلاق على الذات ليعمد البعض إلى التفرد بالرأي والتعصب الأعمى لفرقته ونهجه ورؤيته والعجز عن رؤية المشترك وما يحقق مصلحة الجميع. هذه المصالح المشتركة يصعب رؤيتها وإدراكها على من لا يملكون قدرة على النظر للأمور من زاوية الجماعة بعقلية منفتحة وبحكمة، فيفوّتون على أنفسهم وعلى غيرهم خيرا كثيرا، فالمصالح المشتركة ذات عوائد عظيمة حتى ولو لم تكن آنية أو واضحة كوضوح المصالح الشخصية. كلا الفريقين، فريق الممجدين المطبلين الذين ارتضوا النفاق والتملق أسلوبا للصعود، وفريق الذين امتهنوا الاصطياد في الماء العكر والبحث عن الأخطاء وتكبيرها عن حجمها والتشهير والإثارة، دافعهم في ظاهر الأمر الشهرة ولفت الأنظار واجتذاب الانتباه. وعندما يكون طرح الرأي شخصيا بفكر منغلق، تغيَّب الموضوعية وتسيطر الأهواء الشخصية وعندها يكون خطاب النخب المثقفة في أدنى مستوياته لا يغني ولا يسمن المجتمع، بل إن الحوار يتحول إلى صراع الديكة تضيع فيه الأوقات وتفقد الطاقات ويكون فيه التفكير شيطانيا شريرا حتى وإن بدا بلغة راقية وألفاظ منمقة. هذا الوضع الثقافي يجعلنا ندور في المكان ذاته دون التحرك إلى الأمام والتقدم خطوات نحو الأفضل واستكشاف الامكانات وتوظيفها في الاتجاه الصحيح.
انعدام الموضوعية في تناول القضايا العامة يعني فقدان التوازن في المجتمع واضطرابه ومن بعد ذلك تشتيت للجهود وإضعاف للهوية الجماعية والعمل المشترك. الموضوعية لا تعني أن نكون نسخا كربونية بذات النمط من التفكير، فالاختلاف أمر إيجابي، بل أساسي إذا كان للتكامل والتعاون وتوليد الأفكار الجديدة، وليس للتنافس السلبي على صورة صراعات ومشاحنات وتصادمات فكرية تجريدية ترفيه. الاختلاف يكون داخل دائرة المصالح العليا للوطن في إطار من الثوابت الوطنية والمبادئ الشرعية والقيم الإنسانية الراقية والرؤية المشتركة. دون قيم الصدق والنزاهة والشفافية واحترام وجهة نظر الآخرين واحترام النظام لن يكون هناك موضوعية في النقاش وفهم وتوجيه المجتمع، بل أهواء شخصية ذات اليمين وذات الشمال ليكون النقد من أجل كشف العورات والتقليل من شأن إسهامات الآخرين، وليس من أجل المشاركة في وضع الحلول، فهناك الكثيرون ودون مبالغة يفرحون فرحا كبيرا ويسعدون أيما سعادة بالأخطاء فهمهم تصيد الهفوات والقصور في العمل الحكومي الذي يعتريه من النقص والقصور ما يعتري أي عمل إنساني، ليعززوا ما يدور في أذهانهم من نظرة تشاؤمية ويؤكدوا ما يعتلج في نفوسهم المريضة من سلبية حيال المجتمع وأسلوب إدارته. هؤلاء يرغبون أن يكونوا جزءا من المشكلة وليس جزءا من الحل، ليستمروا في التفتيش عن الأخطاء دون أن يتوقفوا ولو للحظة ويتسألون: هل هم قاموا بما يجب عليهم تجاه الوطن؟ وهل هم أنفسهم خالون تماما من الأخطاء والقصور؟ التغيير يبدأ من النفس ومتى كانت النفس صحيحة معافاة من العقد والفراغ والجوع للشهرة والمال والوجاهة كانت أجدر في رؤية الأشياء على حقيقتها وإعطاء كل ذي حق حقه على أساس من العدل والإنصاف. في المقابل هناك من يسير في درب المداحين ليقولوا للمجتمع إننا بلغنا حد الكمال في كل شيء حتى أنهم يقلبون النقص زيادة والسلبيات إلى إيجابيات ويتغنون بالمشاريع حتى وإن تعثرت أو لم ترتقِ إلى الجودة المطلوبة وهؤلاء يقومون بعملية التخدير ليتلبس البعض وهم العظمة وأن مجتمعنا بلغ مبلغا لم ولن يسبقه إليه أحد وأنه يعتلي منصة التتويج في كل الأمور وفوق العالمين. وهذا أمر فيه مبالغة وتزييف للحقائق وتظليل للمجتمع ما يقود إلى تصورات خاطئة عن حقيقة المجتمع ومستوى تقدمه ليكون الشعار أنه ليس بالإمكان أكثر مما كان! لتقل الدافعية في السعي نحو تحقيق الأفضل وتنكمش الجهود ويركن المجتمع لهذا الوهم وتكون الاتكالية والركود والجمود والوهن.
ما دعاني للكتابة في هذا الموضوع تجربة خضتها في الأسبوع الماضي مع أحد الصحافيين الشباب الذي طلب مني تصريحا حول دورة تدريبية يقيمها مركز الأمير سلمان للإدارة المحلية فأجبته لطلبه، ثم استأذنني في أن يجري حوارا مع الخبير المحاضر في الدورة فسهلت له ذلك بنية تشجيع الكفاءات الوطنية وإكسابهم الخبرة ومنحهم الفرصة، لأفاجأ بأن عنوان الخبر فيه تضخيم وإخراج للتصريح عن سياقه وتم اختزاله بطريقة انتقائية ليختل المعنى ويغيب المقصد ويعطي انطباعا سيئا مغايرا للواقع. لقد أراد ذلك الشاب الإثارة ولفت الانتباه ولو على حساب التقليل من قدر وإنجازات وجهود الآخرين بالنظر بعين واحدة ليرى النقطة السوداء الصغيرة ويتغافل عن الصفحة البيضاء الكبيرة! ربما كان تبريره أنه لا يرغب التطبيل والمديح، لكن ذلك لا يعطيه الحق في الاصطياد بالماء العكر! إنها غياب الموضوعية والتوازن في الطرح الذي يجعلنا أقل قدرة على كسب معركة التنمية ومواجهة التحديات المستقبلية، وفهم أين نحن الآن؟ وأين نريد أن كون في المستقبل؟! فنحن في السفينة نفسها وتقع علينا جميعا مسؤولية الحفاظ عليها بحكمة وموضوعية
[U]نقلا عن الاقتصادية [/U]