الثورات عبر التاريخ تظل كما تسميتها ثورات مستمرة في منهجها السياسي والاجتماعي وتستمر في نفس النهج، ولأنها ثورة فهي تتشكل بشخصية ثورية كونها قنبلة اجتماعية تتفجر في مساحة اجتماعية محددة تقتل من تقتل، وتصيب من تصيب ولكنها لا تنشر تأثيرها لكونها تتشكل كبعد عاطفي محدود في تأثيره الاجتماعي. وأهم سمات الثورات لا تقف عند جيل محدد ولذلك فالمتابع لتاريخنا العربي يدرك هذه الحقيقة.
الكثير منا يرى أن هذه الثورات التي حدثت ستؤدي إلى نتيجة ايجابية والبعض الآخر يشك في هذه النتيجة، لهذا السبب ذهبت إلى احد كبار السن ممن لهم خبرة في تاريخ منطقتنا وسألته عن تلك المشاعر التي انتابته عندما كان عهد الثورات العربية قائما قبل حوالي خمسة عقود فوصف لي نفس المشاعر ونفس السيناريو الذي يحدث اليوم من حماس كبير بين شباب تلك المرحلة ولكنه ذكّرني أن هناك دولا ظلت مستقرة وتجاوزت تلك المراحل دون تأثير عليها وأثبتت أنها أكثر الدول استقرارا من غيرها لكون مصطلح الثورات لم يدخل قاموسها فتبنت التنمية والتطور فيها بدلا من شعارات خدمة الثورة وأهدافها.
مما يبدو أن الثورة ليست مصطلحا بديلا أو موازيا للتنمية والتطور والتغيير لذلك من المحتمل أن لا تقدم الثورات للمجتمعات العربية وخاصة الجيل الجديد من الشباب الشيء الكثير فقد بدأت تتكشف أسرار جديدة حول الأوضاع العربية الراهنة والتي أصبحت خليطا فكريا مربكا للمتابعين، فلم تعد القضية تحولات سياسية وتغييرات في الأنظمة والقوانين ومحاكمات بل إن هناك أبعادا فردية واجتماعية وسياسية لم يتم التفكير فيها بعد، وأصبحت القضية منهجية سياسية وإستراتيجية تقوم على - دار - دار - بيت - بيت - زنقه - زنقه ؛ حيث من المتوقع أن تنشأ نظرية بهذه المصطلحات تدرّس للمتعلمين في مجال السياسة ..
وإذا كان هناك شخصية (جحا) الفكاهية في التاريخ العربي فسيكون قائل هذه الكلمات هو (جحا) السياسي في التاريخ العربي.
سوف يحمل الشباب العربي وزر هذه الثورات، وسوف يحمل نتائجها فلذلك لابد من طرح الأسئلة المهمة حول المستقبل المحتمل لهذه الشعوب بغض النظر عن النتائج التي حدثت. لذلك يمكن صياغة السؤال المفعم بالاستثارة للمختلفين والمؤيدين : هل كان العالم العربي بحاجة إلى مثل هذه الثورات ، أم كان بحاجة إلى منهجية أخرى من العمل..؟
قد يبدو هذا السؤال صعبا ولكن علينا أن نسأل أنفسنا اليوم مثل هذه الأسئلة ، ومهما كان موقفنا مؤيدا أو معارضا فلابد من البحث عن إجابة لكل سؤال يخص هذه المرحلة، وليس من المحتمل بل من المستحيل حاليا أن يحل العالم العربي بديلا عن العالم الغربي في قيادة الحضارة الإنسانية على الأقل لخمسة قرون قادمة كما أعتقد ولذلك احتار القادة السياسيون واحتارت المجتمعات حول ماذا يريد هؤلاء الشباب، لازلت مقتنعا أن الخلل في العالم العربي خلل اجتماعي وبشري فما يحدث يعبّر عن (تلبك اجتماعي في المعدة السكانية والأمعاء الجغرافية والتاريخية) أكثر منه سببا سياسيا صرفا أي البحث عن الديمقراطية.
الاحتمالات كثيرة للإجابة عن هذا السؤال فهناك من سيقول إن العالم العربي بحاجة إلى تلك الثورات ولكن إذا رددت السؤال على نفس المجيب وقلت له لماذا فسوف تفاجأ بكمية من الأسباب غير المتناغمة حيث سيختلط في إجابته الكثير من المفاهيم السياسية والاجتماعية والاقتصادية دون أن تخرج في النهاية بسبب يشكل حجرا لزاوية تلك الثورات.
لقد استمعنا في معرض هذه الثورات وفي البلدان التي تمكنت منها تلك الثورات الكثير من الأحاديث التي تعكس حجم الارتباك في تحديد لماذا الثورات بل إن الإعلام اليوم يتحدث عن عملية سرقة لهذه الثورات بالمفهوم السياسي وهذه معضلة أخرى.
إلى ماذا ستقود هذه الثورات العالم العربي الذي يعاني من مشكلات كبيرة..؟
لذلك يمكن القول إن الثورات العربية لن تقدم الحلول بهذه الطريقة التي تحدث فيها بل إنها جزء لا يتجزأ من مشكلات كثيرة يعاني منها الكثير من دول العالم العربي ففي الثورات العربية المشكلات وليس الحلول كما يبدو.
المجتمعات العربية يمكن اعتبار أنها تسير على طريق التغيير تاريخيا ولكنها بالتأكيد هي ليست في نهاية الطريق بل قد تكون في منتصفه. والقارئ للتاريخ يدرك هذا العالم العربي وما لديه من المعضلات الفكرية التي تجعله غير قادر على التحرك نحو أساليب التحول المنطقية والمنهجية فقبل صراع العالم العربي مع التحولات السياسية هو يعيش صراعا فكريا وثقافيا، كما أن الدول العربية بحاجة إلى أن تشعر هي باستقلاليتها ذاتيا قبل أن تفكر في وحدتها سياسيا، وأعتقد أن اكبر الأخطاء هو مطالبات الوحدة العربية المتكررة دون الوصول إلى أرضية فكرية واجتماعية واقتصادية لهذه الوحدة.
العالم العربي لكلّ منه دار مختلفة وبيت مختلف، وزنقة مختلفة على حد قول - العقيد القذافي - والذي أطلق أيديولوجيا مهمة تتمثل في أن الثورات مهما بلغت من الكبر عتياً كما في بعض الدول العربية إلا أنها لم تتغير فنفس المشروع، ونفس الأفكار يظلان كما هما، ففي عالمنا العربي لن ينجو من هذه الثورات سوى تلك البلدان التي لم تُبن على ثورات بل بنيت على استقرار تاريخي لأن الثورات مشكلتها أنها كالثأر بين الأجيال لابد من تكرارها، وكل جيل يثور على الذي قبله لذلك أستطيع القول إن هناك جزءاً كبيرا من عالمنا العربي سوف لن ينجرف مجتمعه خلف هذه الوسائل لكونها ليست في تاريخه.
وسائل الإعلام العربية التي تبنت متابعة تلك الثورات حرصت كثيرا على أن تكون الأسباب ذات بعد اقتصادي بشكل عام فكل ما يردده الإعلام العربي هو الفقر والعوز والحاجة ففي كل الدول التي تعرضت للثورات يتم استثارة العاطفة المجتمعية، والرغبة الذاتية وتكريس المواقف المضادة عندما يتم الحديث عن المال وعلاقته بالرموز السياسية في تلك الدول العربية التي تعرضت أو هي تتعرض الآن للثورات: هذه المنهجية الإعلامية هي احد أهم المرتكزات التي قام عليها الإعلام العربي بشكل خاص عندما كان يغطي الأحداث ولكن السؤال هو لماذا أصبح الاقتصاد هو القشة التي قصمت ظهر البعير السياسي؟!
لم يعد هناك تفكير واضح حول ما يجري سوى أن الثورات العربية كلها تتبنى فلسفة (دار ، وبيت ، وزنقة) وليست تطورا وتنمية وحضارة.. ومهما قيل عن كل ثورة وعن الظروف التي تصاحبها فهي لن تخرج عن هذه الإستراتيجية فدار تعني الوطن، وبيت يعني الاقتصاد، وزنقه تعني الأمن الداخلي فمما يبدو أن الثورات العربية تحاول أن تكسر أهمية هذه المفاهيم الثلاثة أمام السياسيين الذين يريدونها داراً داراً ، بيتاً بيتاً ، زنقة زنقة.
نقلا عن الرياض