هي البداية. الخطوة الأولى على طريق استعادة مصر موقعها. و «عودة الروح والعقل» إليها. موقفها من فلسطين حدد ويحدد قدرتها على حماية مصالحها الاستراتيجية في العالم العربي، وخارجه أيضاً. المسألة الفلسطينية هي البوصلة. رعاية القاهرة للمصالحة بين «حماس» و «فتح»، أو بين الضفة الغربية وغزة، تمنحها قوة إضافية، خصوصاً أنها ستكون في طليعة المطالبين بالاعتراف بدولة فلسطينية خلال شهور قليلة. دولة مؤسسة على شرعية الأمم المتحدة.
أصبح باستطاعة مصر الآن قول لا كبيرة للسياسات الإسرائيلية في المنطقة. وهذا لا يعني، بطبيعة الحال أن تلغي اتفاقات كامب ديفيد، على رغم حقها في إعادة النظر ببنودها. ولا يعني التراجع عن تعهداتها. بل يعني ممارسة سيادتها وحقها في رسم سياساتها، بناء على مصالحها الوطنية والقومية. الموقف الجديد يجعل القاهرة حليفة للولايات المتحدة، وليست تابعة. لنتذكر تركيا في هذا الإطار. لأنقرة علاقات ممتازة مع الولايات المتحدة وإسرائيل، لكنها تقول للحليفين لا عندما تتعارض مصالحها مع سياساتهما. وقد بنت علاقات متينة تمتد من البحر المتوسط إلى آسيا والقوقاز لخدمة هذه المصالح.
ولنتذكر أيضاً أن تخلي القاهرة عن القضية الفلسطينية، وانحيازها الكامل إلى الدولة العبرية (حصار غزة خير مثال)، طوال أكثر من ثلاثين سنة، جعلها فاقدة أي قدرة على التأثير في محيطها القريب والبعيد، وغير قادرة على التخطيط الإستراتيجي. سقط النظام المصري السابق في اللعبة الداخلية لحماية مصالح طبقة طفيلية تكونت على هامش «العولمة والانفتاح». منذ أنور السادات واتفاقات كامب ديفد استراح النظام من عبء العرب وقضيتهم، رافعاً شعار 99 في المئة من الأوراق في يد أميركا، بما في ذلك أوراق السياسة الداخلية. كان اختيار رئيس للاستخبارات أو تعيين وزير يخضع للموازنة بين رضا واشنطن ومصلحة الطبقة الحاكمة.
والآن، بدأ عصر الثورة التي تبدو أكبر من عمرها بكثير. العقلانية في سلوكها مؤشر مهم إلى نضوجها، على رغم انقضاء أشهر قليلة على انطلاقها. مآخذها على القضاء وانصياعه لإرادة الحكم السابق لم يمنعها من اللجوء إلى المحاكم لمقاضاة الفاسدين الذين أمعنوا في تجويع الشعب ونهب ثروته. أما سياستها الخارجية فبدأت بالخطوة العملية الصحيحة عندما رعت المصالحة الفلسطينية.
عادت مصر من البوابة الصحيحة. وينتظر منها الكثير لرسم سياسة عربية جديدة، بعيداً من التحريض الطائفي والعنصري الذي مارسه النظام السابق، وقسَم العالم العربي إلى معسكرين متحاربين. تدير شؤونه الصراعات الأميركية (والإسرائيلية) مع إيران لإخضاع دوله واقتسام النفوذ فيه.
والحال أن الخطوة المصرية في حاجة إلى خطوات عربية في الاتجاه ذاته. وكان يمكن لهذه الخطوات أن تبدأ من سورية التي رحبت بالثورة وتوقع الجميع أن تعود العلاقات بين القاهرة وبغداد لبناء نظام عربي جديد. لكن الأحداث في سورية وضعت حداً لهذا الحلم.
عام 1933 أصدر توفيق الحكيم كتابه «عودة الروح»، متوقعاً ظهور بطل ينقذ الأمة وخيل إليه وإلى الجميع أن عبد الناصر كان هذا البطل. لكنه عام 1972 كتب «عودة الوعي»، منتقداً ناصر وحكمه.
كان الحكيم مثل كثيرين من أبناء جيله يرى البطل المخلص شخصاً واحداً. لكن الثورة المصرية الحالية أثبتت أن البطل هو الشعب. وقد عادت إليه الروح والوعي معاً.
نقلا عن الحياة السعودية