في كتاب جديد لتيمور كورن التركي الأصل وأستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة دوك الأمريكية عنوانه "الانحراف الطويل: كيف أعاق النظام الإسلامي التطور في الشرق الأوسط". أعادت إلى الأذهان الأزمة الأخيرة في المنطقة العربية مرة أخرى السؤال الرئيس: لماذا هذا الجزء من العالم فشل في اللحاق بالعالم الحديث في نواحي الحياة كافة. هذا السؤال المركزي يلاقي صعوبات جمة في اختراق العقل العربي لأسباب موضوعية. تمتد هذه الأسباب من الحاجة إلى الغوص في تاريخ المنطقة، ولماذا كانت قبل نحو 1100 سنة أكثر تقدماً من أوروبا، إلى تفهم أبسط العادات الاجتماعية والنزعات العاطفية. الأسباب كثيرة وتراكمية وهناك نظريات عدة تحاول الإجابة عن هذا السؤال المركزي. تتعدَّد النظريات بتعدُّد المنطلقات الفكرية والفلسفية، فهناك مَن يسوّق نظريات مرجعها ديني وآخرون استعماري وتسلطي وبعضهم يمزج بين هذه المرجعيات.
يخلص المؤلف إلى أن الأسباب ليست بسبب الإسلام، ففي صدر الإسلام كان العالم العربي والإسلامي متقدماً، كما أن نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، مارس التجارة على عكس عيسى ـ عليه السلام ـ على سبيل المثال، مما يدل على قبول الأعمال التجارية وتشجيعها؛ لكنه يرجح أن هناك أسباباً ثانوية مصدرها إسلامي في الأساس مثل نظام توزيع الإرث، والذي ــ بزعمه ــ أسهم في الحد من القدرة على تكوين رأس المال بالحجم الذي يصل إلى القفز من التجارة إلى الصناعة، فالإرث في الغرب مثلاً يذهب إلى الابن الأكبر، ولكن الشريعة الإسلامية أكثر عدالة، حيث يذهب الإرث إلى الكل بما في ذلك النساء، مما يبين عدالة الإسلام، ولكنه ــ كما يقول ــ يحدُّ من تراكم رأس المال. والسبب الثاني ــ طبقاً للمؤلف ــ أن نظام المشاركة الإسلامية البسيطة ذات الطابع الشخصي لم يساهم في إيجاد شركات اعتبارية تتعدّى عمر مؤسسيها، وبالتالي هي أيضاً لا تساهم في تراكم رأس المال والعمق الإداري والفني المعتمد على الحجم والشخصية الاعتبارية، وبالتالي سرعان ما تموت بعد نهاية مؤسسيها.
هذه العوامل أسهمت في تأخير بناء القطاع المصرفي اللازم لتجميع رأس المال وتحوله من المودعين إلى المستثمرين وتأثير ذلك في تقليص تكلفة رأس المال (أسعار الفائدة). التجارة الكبيرة ثم الصناعة تتطلبان وجود قطاع مصرفي نشط. قد تكون هذه أسباباً جزئية ولكن دورها تراكمي، كما أن طبيعة التقدم اليوم تحتم أن الفائز يصعب اللحاق به، وأن الوقت كفيل بزيادة الفجوة إذا لم يرتكب المتقدم أخطاءً كبيرة، لاحت هذه الفرص في أثناء الحرب العالمية الثانية، ولكن العالم العربي كان في أغلبه لا يزال تحت قبضة استعمارية، وفي حالة منهكة للبحث عن الذات. يُذكر كورن أن ما يُسمى الاقتصاد الإسلامي ما هو إلا تبسيط وغير متماسك ولا يرتقي إلى التحدي الجديد نظرياً أو عملياً. ويرى أن الغرض الأساسي منه كان رعاية الهوية ومقاومة العولمة في الإدارة الاقتصادية.
بعد أن تغلب العالم العربي على هذه الجزيئيات واستطاع تحقيق تراكم رأسمال دخل نفق الاقتصاد الريعي من خلال توافر عوائد نفطية والاعتماد على توافر مال دون أعمال اقتصادية تُذكر، فبدأ حقبة جديدة تتميز بعلاقة وثيقة بين السياسة والاقتصاد. أهم ما في هذه الحقبة هو الاعتماد على الحكومة بدلاً من القطاع الخاص لتحقيق النمو. هذه العلاقة جعلت من القرار الاقتصادي عملية ثانوية وليست في قلب الحدث، وأصبح المال (ذلك الوسيلة والمنظار المشوّه للنشاطات الاقتصادية) هو المعبر عن السياسة الاقتصادية، فضاعت السياسة الاقتصادية بين المال والسياسة.
نقلاعن الاقتصادية السعودية