لقَد تَغيّرت الأمُور والأحوَال، وجَاءت الوسَائل وألغَت مَا كُنَّا نَعرف مِن مَسَالك وطُرق للتَّهنئة والتَّراسُل..!
قَبل أكثَر مِن عَشر سَنوات؛ كَتبتُ عن رَسائل الجوَّال، وأكَّدتُ أنَّ هَذه الرَّسائل ستَكون ديوَان العَرب بَدلاً مِن الشِّعر..!
وقَبل سَنوات اقترحتُ عَلى صَديق لي أن يُقدِّم درَاسة مَاجستير؛ عَن تَحليل مَضمون رَسائل التَّهاني في رَمضان، وإخضَاع تلك الرَّسائل للدَّرس والتَّحليل عَلى أن تَكون (رَسائل الجوَّال في تَهاني رَمضان عِند العربَان)، وجَميع شرُوط الدِّراسَة مُكتملة، لأنَّ هُناك عيّنة كَافية، ومَضمونًا غَزيرًا، ونَصًّا وَفيرًا..!
وهَذه لَيسَت المَرَّة الأولَى التي أكتبُ فيها عَن هَذه الرَّسائل، بَل كَتبتُ قَبل خَمس سَنوات عَن «الشّعور الإلكتروني»، هَذا الشّعور الذي يَتدفَّق في رَمضان، وكَأنَّه موجة غبَار عَاتية، ومَع الأسف أنَّ هَذا الشّعور رَغم أنَّه شعُور إلكتروني، وهَذه طَامَّة، هُناك طَامَّة أُخرى، وهي أنَّه شعُور مُستعار، وإحسَاس مُستعمل، لأنَّ مُتلقِّي الرَّسائل يُدرك أنَّها قَرابة عَشر رَسائل تَلف البلاد، وتَقتحم جوَّالات العِبَاد، وكُلّ فَرد -فَقط- يَمسح اسم المُرسِل ثُمَّ يَكتب اسمه ويُعيد إرسَالها. ومَع هَذا التَّدفُّق في الرَّسائل كُلّ عَام وَصلتُ لنَظريّة عَرفجيّة تَقول: (قُل مَا هي التَّهنئة التي تُرسلها لِي في رَمضان، أَقُل لَك مَا هو أسلُوبك)..!
في الحَقيقة لَيس لَديَّ أي اعترَاض عَلى تَبادُل الرَّسائل، كَما أنَّني أُقدِّر الأهدَاف النَّبيلة التي تَدفع الكثير لإرسَالها، ولَكن الاعترَاض عَلى هَذه الخطوة أنَّها تَحمل خَطرًا مُضاعفًا، أوّلاً هي تُعلِّم النَّاس الكَسَل والتَّبلُّد، لأنَّ مُعظم الرَّسائل مَنقولة مِن بَعض، لذا هي تُضعف «خَاصيّة التَّعبير» عِند المُرسِلين.. كَما أنَّها مِن جهةٍ أُخرى تَضرُّ بالنَّاس، لأنَّها أنسَتهم خَاصيّة الكَلام، حيثُ كَان النَّاس في السَّابق يَتهاتفون، ويَتدرَّبون عَلى التَّعبير وتَرتيب التَّفكير..!
وأكثَر الأشيَاء قُبحًا في هَذه الرَّسائل؛ أنَّها تُرسَل بضغطة وَاحدة، لذلك قَد تَأتيك رِسَالة وكأنَّك أُنثى، وقَد يَأتي للأُنثَى رسَالة بصيغةِ رَجُل، وقَد تَأتيك رسَالة عَلى أنَّك شَركة.. وهَكذا، إنَّها رَسائل مَجَّانيّة بلا عَواطف، ولا أحَاسيس، وإنَّما فَقط تَأدية وَاجب بشَكلٍ مُملّ، وكَأنَّ التَّهاني هَمٌّ يُريد أن يَرتاح مِنه المَرء..!
حَسنًا.. مَاذا بَقي..؟!
بَقي القَول: حَقيقةً تعجبني تَهاني شلّة قَليلة مِن الأصدقَاء، مِن أمثَال الرِّوائي «هاني نقشبندي»، والشَّاعر «عبدالرحمن العكيمي»، و»أبوحاتم الشمري»، و»سعد الرفاعي»، لأنَّ رَسائلهم فِيها ابتكَار وتَجديد، وتُخاطبك باسمَك، وتَشعر أنَّها كُتِبَت لَك فَقط، وفي هَذه السَّنة أرسَل لي الصَّديق الشَّاعر «سعد الرفاعي» بَيتين مِن الشِّعر حَول رَمضان يَقول فِيها:
الصَّوَمُ في مَعنَاهِ غَيثٌ مغدقٌ
أرأيتَ صَومًا يَروي الظَّمآنَا
هو أوضَح الميزَان فاغْنَم فَضله
سَارع إليهِ ورجَّح الميزَانَا
نقلا عن المدينة