محاكمات الإرهابيين في السعودية فيها الكثير مما يلفت الأنظار لمَن يراقب الشأن السعودي، بداية من فتحها أمام وسائل الإعلام، مروراً بالعدائية الواضحة التي يبديها المتهمون لوسائل الإعلام الحاضرة، وانتهاءً بالمعلومات الخطيرة التي تُكشَف في كل جلسة، دون حجبٍ من الجهات الأمنية، وهذه نقطة تسجل للانفتاح في التعاطي الأمني مع الإعلام الذي نلمس انعكاس تأثيراته الإيجابية المتعددة.
لكن أكثر ما يلفت هنا، بل يمكن اعتبارها مفاجأة المفاجآت، كانت في غضب عدد من المتهمين من مشايخهم السابقين، الذين أفتوا لهم و'حرّضوهم' على الخروج للقتال في كل من العراق وأفغانستان، بل بلغ غضب المتهمين إلى تلويح أحدهم بمقاضاة هؤلاء المشايخ الذين استغلوا صغر سنهم وضللوهم بالفتاوى، سواء عبر الإنترنت أو منابر المساجد. هنا لاحظوا أن هذا الغضب أتى من المتضررين أنفسهم، لا من غيرهم، فهم مَن اكتووا بنار الإرهاب التي أرادوها أن تحرق الوطن، فنجا الوطن وها هي تحرقهم وحدهم، بينما مشايخهم يتفرجون.
ولعلي أتفق تماماً مع مطالب هؤلاء المتهمين، في جلسة أمس الأول؛ فالجرائم لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن تصور أن مَن يقفون خلف القضبان يحاكمون بتهم الإرهاب، هم وحدهم المسؤولون عن عملهم هذا، فالتحريض عنصرٌ رئيس ولا يمكن فصله عن الدوافع التي رمت بهؤلاء الشباب صغار السن في أتون الإرهاب، ولا أجد كلاماً منطقياً أكثر مما جاء على لسان أحد المتهمين عندما تساءل عن كيفية محاكمتهم كمتهمين وغض الطرف عمّن أفتوا لهم بالجهاد؟ باعتبار أن هؤلاء هم مَن يتصدّرون الفضائيات الآن، ويتقاضون على ذلك ملايين الريالات، بينما هم أنفسهم مَن كانوا يُحرِّمون مشاهدة التلفزيون سابقاً.. فأي انقلاب على المفاهيم أخطر من ذلك؟
مَن يراقب 'مشايخ' الفضائيات لا بد أنه يلاحظ أن بعضهم انسلخ تماماً من الفكر المتطرف الذي كان يبشر به وينثره على العامة عبر الخطب الحماسية فوق منابر المساجد، وهذا أمرٌ محمود، غير أن المسألة لا تتعلق بتراجع عن فكر تأثر به صاحبه فقط، بل المصيبة أن هذا الفكر حالة عامة بلغت دائرة عريضة من المغرر بهم، فلما دارت الدائرة ووعوا حجم الخطيئة والجرم الذي ارتكبوه عادوا شيئاً فشيئاً إلى رشدهم، لكن مرة أخرى، ماذا عن المتضرر الأول من تحريضهم هذا؟
عندما يراجع الفرد، أي فرد، أفكاره الخاصة، ويعود عنها، فهذا أمرٌ شخصي، لكن عندما يكون هذا التراجع، بعد أن يغرق مَن يغرق، ويجنح مَن يجنح، ويضل مَن يضل، بسبب هذه الفتوى أو تلك، فهذا أمرٌ لا بد أن يُحاسَب عليه مَن قام وتسبّب فيه، وفي حالتنا هذه فإن مشايخ الفضائيات المعنيين، لا يحق لهم تصدُّر هذه القنوات وترك فتاويهم السابقة تتطاير عبر الإنترنت وغيرها، بل من الواجب عليهم العودة عنها باعتذار صريح وتبيان الأخطاء التي وردت فيها، بكل تفاصيلها، وتحمل المسؤولية الأدبية والقانونية، حتى الشرعية، الكاملة عنها.
المجتمع السعودي لا يزال يدفع ضريبة العمليات الإرهابية التي عانى منها الأمرين، ويكتوي بنار مَن قرَن اسم الإسلام بالإرهاب، وبعد هذا كله يأتي مَن كان سبباً رئيساً لاتساع دائرة العنف بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، متصدّرا القنوات الفضائية، مستمتعاً بملايين الريالات، دون حتى موقف أخلاقي واحد.. أفلا يخجلون!
نقلا عن الاقتصادية