مع الأسف أننا نتعلم مبكراً، البيت والمدرسة وكل الأمكنة، بأن الوقوع في الخطأ هو خطأ بذاته، ومع أن الإنسان ليس كائناً ملائكياً خالياً من الأخطاء والآثام، إلا أننا لا نعي طريقة تحويل السلبي إلى إيجابي، بأن الوقوع في الخطأ ليس نهاية العالم بقدر ما هو تجربة تضاف إلى رصيد خبرتنا، فعلم النفس على سبيل المثال ما زال يجري اختبارات التعلّم عن طريق المحاولة والخطأ، وكل بدايات التعليم الأولى قد تبدأ بالخطأ، فالإنسان لا يتعلم المشي دون تجربة السقوط؛ لأن الوقوع في الخطأ احتمالية واردة لكل منا.
هناك عدة قضايا شغلت الرأي العام على مدى السنوات العشر الماضية، تظهر مدى العجز الثقافي عن التقدم على سلّم الإنسانية التي نطمح إليها، ففي ثقافتنا أمراض مخبوءة داخل دهاليز مجتمع محتقن، يفترض بنا مناقشتها بكل شفافية لبحث أبعادها الغائبة وزواياها الحادة. وأهم هذه الزوايا والأبعاد، قضية يمكنني تسميتها بـ"انتقام المجتمع من ذاته"، وهي تشبه في لغزها ظاهرة انتحار الحيتان ولكن بطريقة أخرى، هي الانتقام من الآخر أياً كان هذا الآخر قريباً أم بعيداً، حيث إن الأهم في هذه الظاهرة وجود الفعل الانتقامي الذي يشبه الطوفان الذي لا يمكن الوقوف أمامه، وفق مبررات غالباً ما تأخذ الشكل الديني والطائفي، والشكل الاجتماعي المعقد أحياناً أخرى، وتظهر في وقت الأزمات بطريقة تعبر عن حجم الكامن من خلال التنفيس عن السلبية التي يعيشها كثير من الأفراد بشكل جماعي أو فردي، توحي بأن الناس متعطشون إلى الإساءة أكثر من كونهم متعطشين إلى التسامح والبحث عما يوحد القلوب وينطلق بالأفكار إلى المدى الصحي لها الذي يثريه الاختلاف لا الشقاق العنيف.
فحين تصبح طريقة البحث عن قربان للتضحية به بالقوة ظاهرة، نعرف أن هذا المجتمع أو ذاك قد عاد إلى العصور القديمة المظلمة، حين كانت مشاعر الإنسان الحجري مختلطة بين شهوة القتل ودوافع الخوف، يعبر عنها بالمزيد من إراقة الدماء بعيداً عن معنى التسامح الديني والإنساني، فتظهر العنصرية في اللاوعي كظاهرة اجتماعية أخرى يدعمها وهم تفوق الذات مقابل نفي الطرف الآخر ووصفه بأقذع الأوصاف، فلا يرى الإنسان سوى نفسه في محاولة الانتصار للذات الفردية وتدمير الذات المجتمعية في الوقت نفسه.
من خلال الإعلام الإلكتروني، بوسائله البديلة المتعددة، صرنا نشهد الكثير من القضايا الاجتماعية التي تبرز مدى حدة العنصريات القائمة، التي تأخذ شكل التذرّع بقضية طائفية أو دينية أو اجتماعية، بعيداً عن معنى القيم النبيلة التي يدعي المجتمع أنه أهل لها، ولكن الأمر مختلف على أرض الواقع، فحتى القيم النبيلة - مع الأسف - أصبحت قيماً فاسدة باستغلالها لقضايا نفعية ومصلحية، وأضحت تستخدم كأداة تعبير عن الانغلاق على الذات ورفض الانفتاح على غيرها. فلو أردنا أخذ مثالين لظاهرة انتقام المجتمع من ذاته فأظن أن (الصراعات والشائعات) نموذجان مرشحان لذلك.
فكثير من الصراعات العنيفة قد تبدأ برأي أو فكرة، وتنتهي إلى الاتهام والتأليب والتفتيش في الضمير والبحث عما يسيء إلى السمعة والأخلاق كمحاولة لتدمير الطرف الآخر، لا يتورع فيها طرف عن تجميل القبح وادعاء امتلاك الحقيقة الكاملة، وهذا نتيجة مرض عضال قديم هو بحث الإنسان عن الكمال، رغم أن الكمال ليس بوهم الوثوقية الممتلئة بازدواجية الفعل فيكون هناك ظاهر خيّر وباطن شرير، ليحصل بالتالي الخلط الكبير بين النبل والفساد الاجتماعي، وهذا ناتج عن ازدواجية الثقافة أصلاً، فهي ثقافة غير متسامحة ولا تقبل الأمور على حقيقتها بل لا بد من التنميق والتجميل ظاهرياً، ليصبح الأمر للفرد أشبه ببيضة فاسدة، سطحها يوحي بالبياض بينما يمتلىء جوفها بالبكتيريا القاتلة.
أما الشائعات التي هي (علامة الجودة) بالنسبة لمجتمعات العالم الثالث، فلا أظن أن إنتاجها والبحث عنها هو مجرد تسلية فقط، بل هو محاولة مجتمعية لتحقيق الذات - فردياً واجتماعياً - عبر صناعة واقع (فانتازي) مختلف عن الواقع الذي يعيش فيه، حيث تلحق بتداول الشائعات ميزات عديدة تملأ الفراغ الذي يعانيه المجتمع، ومن ذلك القدرة على صناعة رأي يمكن التعبير عنه بحرية بصرف النظر عن نسبة الحقيقة في الموضوع الأساسي، كما أن الشائعة تتيح قدراً من التشفي المتراكم وبالتالي إشباع الفعل الانتقامي وتشويه الصورة الواقعية بالإسقاطات، التي هي عبارة عن نواقص وجروح نفسية يتم إسقاطها خارج الذات.
ولذا نحن بحاجة إلى مرصد تتبناه المراكز البحثية الاجتماعية، لقياس مدى الإمكانية والكيفية التي بها يتحول الأفراد إلى كائنات نافعة حاضراً ومستقبلاً، وأظن هذا يستلزم ممارسة قطيعة معرفية نتخفف بها من سلبيات الماضي وأثقاله، وإتاحة الفرصة لأجيال المستقبل أن تحقق ذاتها بلا خطط قسرية لرسم ملامح مستقبلها بالقيود والأغلال، فهذا مما يوقظ الألم أخيراً، ولا سيما أن الجسد المريض ينذره الألم بالخطر المحيط به، لكنه قد لا ينجو من الموت.
والأمراض الاجتماعية لا يمكن علاجها قبل تشخيصها، ومن ثم البدء بالخطوة العلاجية الأولى وهي توفير الفرصة لكي يحقق المجتمع ذاته. وهذا التحقيق لا يأتي دفعة واحدة بطبيعة الحال، فلا أحد يملك عصا سحرية لتغيير الناس إلى الخيرية المطلقة، ولكن لا بد للمجتمع أن يكتشف أولاً أن أزمته في ذاته تكمن في المثلث الإنساني الأول: الحرية، العدل، المساواة؛ ليتاح للإنسان الاهتمام بنفسه وبوطنه وبالآخرين، ولعل ضرورة بث الوعي بالإنسانية هو أسلوب الوقاية من وصول المجتمع إلى مرحلة التوحش، وهي مرحلة صراع الفوضى التي لا تفيد بها أي دعوة للقيم إذا ما انتهى الوضع إلى الانفجار، رغم أن وظيفة القيم هي الارتقاء بالإنسان إلى مكانة تتماهى مع إنسانيته ودوره في صناعة حياة حضارية تليق به ككائن بشري.
نقلا عن الوطن السعودية